ماهان يفاوض خالداً في شأن الحرب
لقد كان ماهان قائداً من قادة الكفار فلما رأى في وجوه أولئك الرجال البسالة والشراسة أراد أن يحقن الدماء فقال: هل من كلمة بيني وبين خالد حتى نحقن الدماء؟ فالتقى خالد مع ماهان، ودار بينهم هذا الحديث: قال ماهان: أخبرنا أنه ما أخرجكم من دياركم إلا الفقر والجوع والحاجة، فإن شئتم أعطيت كل واحد منكم طعاماً وشراباً وعشرة دنانير ذهب ودابة، ثم ترجعون إلى أرضكم وتعودون من السنة القابلة أعطيكم مثلها، فهو يريد أن يكسر عزة المؤمن، وأنى له أن يكسر العزة المستمدة من القرآن ومن النور النبوي؟! فقال له خالد: أما والله! ما أخرجنا الجوع ولا العطش ولا الفقر، ولكننا قوم نحب أن نشرب الدماء، ولقد أخبرنا أن دماء بني الأصفر من أطيب الدماء فمن أجل ذلك خرجنا، ثم كبر خالد رضي الله عنه وكبر الرجال وبدأت السيوف تعمل في رقاب الكفار: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:١٢].
وبدأت التضحيات والمآثر تظهر بين الرجال، فهذا رجل يقول لـ أبي عبيدة: يا أبا عبيدة! إني عزمت على الشهادة فهل من وصية أبلغها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو عبيدة: أقرئ النبي صلى الله عليه وسلم مني السلام، وقل له: إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:١٧١ - ١٧٣].
قال الله جل في علاه: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:٢١].
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة:٥].
فأي قوة تستطيع أن تذل تلك الفئة المؤمنة التي تستمد العزة من القرآن؟! والله تعالى يواسي الأمة في كل حين وفي كل مكان إذا اشتدت بها الأزمات فيقول: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:١٣٩ - ١٤١]، وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:٢١٤].
وقال: {ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:١ - ٣].
وقال: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:١٧٩].
وقال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:٤٣].
فالرجال يعرفون عند الشدائد والمدلهمات، وهنا لك تظهر معادن الرجال، فما أحوج الأمة اليوم إلى ذلك.
ها هو الأقصى يلوك جراحه والمسلمون جموعهم آحاد يا ويلنا ماذا أصاب رجالنا أو مالنا سعد ولا مقداد فانتصر الرجال في معركة من أعظم المعارك، وأبلوا بلاء حسناً، فانتهت المعركة وحسمت في يوم واحد، فمن كان يظن أن هذه الفئة القليلة تستطيع أن تحسم المعركة في يوم واحد؟! فلقد بدأت المعركة من طلوع الشمس وما غابت الشمس إلا والمعركة قد حسمت، وصلى خالد في خيمة ماهان.