[رابطة الدين والعقيدة أقوى من رابطة النسب]
آثر المسلمون العقيدة على الآباء والأبناء والإخوان والعشيرة والأموال، ففي ذلك اليوم قتل عمر خاله، وقتل أبو عبيدة أباه، وقتل مصعب أخاه، يوم جاء الفصل بين الأسرى، فشاورهم النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع هؤلاء الأسرى، وهم أبناء عمومة وأخوال وآباء وإخوان، فقال عمر: أعط فلاناً أباه، وأعط فلاناً أخاه، وأعط فلاناً قريبه، فنضرب أعناقهم حتى يعلم الناس أن ليس بيننا وبينهم مودة.
فالمودة للذي ينتمي إلى هذه العقيدة، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:١٠]، هذا هو سر قوتهم، آثروا العقيدة على كل شيء، على الآباء والأبناء، وعلى الأموال والعشيرة، فلم تقف أمامهم قوة.
واليوم ضعف هذا الرابط، وأصبح الانتماء إلى القومية والقبيلة والوطنية إلى غير ذلك من المسميات، في حين أن بعضهم كان يقول لبعض: إني قد عزمت على الشهادة، فبماذا توصني؟ فيقول له: هنيئاً لك الشهادة؛ ولذلك حرام بن ملحان يوم أن طعن وهو لا يعلم، وخرج الرمح من صدره، وبدأ الدم يتدفق بين يديه، أخذ يمسح على وجهه ويقول: فزت ورب الكعبة! {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:٥٨].
وخرج عمر يوماً يجمع خراج العراق، فوجد من الإبل ما لا يعد، فكان عمر يعد وغلامه يقول: هذا من فضل الله، فقال عمر: كذبت، الله يقول: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:٥٨] وهذا مما يجمعون.
(للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه) فسيفرح أهل الطاعات بما قدموا، وسيستبشرون بما فعلوا في ذلك اليوم العظيم، فكيف بالذي قدم نفسه؟ فكيف بالذي قدم كل شيء في حياته وجعل الحياة وقفاً لله رب العالمين؟ كانت الأمهات والأخوات والزوجات -واسمعي أماه، واسمعي أختاه- حين يعلمن باستشهاد ذويهن يقلن: الحمد لله الذي أكرمهم وأكرمنا بالشهادة، وكانوا يقولون لمن يأتون: إن كنتم أتيتم معزين فلا مكان للعزاء، وإن كنتم أتيتم مهنئين فحيَّهلا ومرحباً بكم.
وهكذا كان الرجال والنساء! والشاهد أن الكفة لم تكن متكافئة في ذلك اليوم، فئة قليلة مؤمنة، وفئة كثيرة كافرة، فانتصرت القلة على الكثرة بإذن الله الذي قال: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:٢٤٩]، وقال: ((قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) بشرط حتى تنتصر (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران:١٣] فأين هم بنو جلدتنا الذين يقولون: الكفة غير متكافئة؟ وأين هم الذين يقولون: الأمة اليوم ليس عندها استعداد حتى تواجه أعداءها؟ بل الأمة في كل زمان إذا تسلحت بسلاح الإيمان والتقوى والإحسان؛ قاتلت ملائكة الرحمن معهم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:٢٠٠].
بمثل هؤلاء الرجال، وبمثل هؤلاء النساء ننتصر بإذن الله.
فقد انتصرت القلة على الكثرة بإذن الله، انتصر الحق على الباطل، وانتصر النور على الظلام، وإذا جاء الحق زهق الباطل، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:١٨].
فالحق موجود اليوم يا إخوان! لكن أهل الحق لم يأخذوا بالحق كما ينبغي، ولم ينصروا الحق كما ينبغي، قال الله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:٤١].