فهذه هي تضحية القائد الأعلى، أما الجنود فأمرهم عجب! فهم تربية القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم، فأول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، فما هو أثر تلك المؤاخاة؟ اسمع بعضاً من أخبارها، وهذا ما نعرفه، وما لا نعرفه أعظم، فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سعد بن الربيع وبين عبد الرحمن بن عوف، فقال سعد بن الربيع لـ عبد الرحمن بن عوف: إني من أكثر الأنصار مالاً، فهذا مالي أشاطرك إياه، ولي زوجتان، فاختر منهما أحبهما إلى قلبك، فأطلقها فإذا انتهت عدتها تزوجتها أنت! أي إيثار أعظم من هذا الإيثار! وما هي الرابطة التي ربطتهم وجعلتهم كالجسد الواحد؟ إنها العقيدة، وهذا مثال واحد والأمثلة كثيرة.
قبل اللقاء تكلم هاتف المهاجرين قائلاً: والذي بعثك بالحق! لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ما تخلف منا رجل واحد، ثم تكلم هاتف الأنصار وقال: امض -يا رسول الله- لما أردت، والله! لو أمرتنا أن نخوض البحر لخضناه معك ما تخلف منا أحد، هكذا كان المجاهدون في أرض المعركة! وفي ذلك اليوم التقى الآباء بالأبناء، والإخوة بالإخوة، فقطعت الأحساب والأنساب، ولم تبق إلا العقيدة، وهي الرابطة التي تربطنا حقيقة، لا الدم والنسب، بل رابطة الدين التي ضعفت اليوم، والتي لو رجعت قوية لانتصرنا على أعدائنا في أسرع وقت.
ففي ذلك اليوم خالفت العقيدة بين هؤلاء ففصلت بينهم السيوف المحكمة في ذلك اليوم، فقد تسابق المسلمون إلى الشهادة، كل يريد أن يموت قبل صاحبه، ويتسابق الكفار إلى الفرار، ولسان حال المؤمنين: ركضاً إلى الله بغير زاد غير التقى وعمل المعاد والصبر على الله في الجهاد وكل عمل عرضة النفاد إلا التقى والبر والرشاد يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم رافعاً شعار المعركة: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) فتتطاير الكلمات إلى مسامع الشباب، فيقول عمير بن الحمام: جنة عرضها السماوات والأرض! ما بيني وبينها يا رسول الله؟! قال:(بينك وبينها أن تقاتل القوم فتقتل) قال: ادع الله أن أكون من أهلها، قال (أنت من أهلها) وكان بيده تمرات فقذفهن وقال: بخ بخ! والله إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكل هذه التمرات! رأى القوم الجنة رأي العين، فما إن دعاهم الداعي:{سَابِقُوا}[الحديد:٢١] إلا تسابقوا، وما سمعوا منادي:{وَسَارِعُوا}[آل عمران:١٣٣] إلا كانوا من المسارعين.
أما الفريق الكافر فكان كل منهم يقدم صاحبه ليموت قبله، كما قال الله:((وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ)) وقوله: ((حَيَاةٍ)) نكرة، يعني: أي نوع من الحياة، حياة عز، أو حياة ذل، المهم أن يتمتع كما تتمتع الأنعام، ويأكل كما تأكل الحيوانات، وبئس هذه الحياة! لضربة بالسيف على عز خير من حياة على ذل {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}[البقرة:٩٦]، وأولئك يتسابقون على الشهادة والموت في سبيل الله، هكذا كان القائد الأعلى وهكذا كان الجنود: إيثار، وبذل، وتضحية ولو كان بهم خصاصة!