لقد ورد ذكر يأجوج ومأجوج في القرآن في موضعين: الموضع الأول: في سورة الأنبياء في قوله تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ}[الأنبياء:٩٦]، قال الشوكاني في فتح القدير: هما أمتان من الإنس، يخرجون على الناس بعد فتح السد، فتراهم من كل حدب ينسلون، أي: من كل المرتفعات يسرعون ويتفرقون في فجاج الأرض.
قال السعدي رحمه الله:{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ}[الكهف:٩٢ - ٩٣]، قال المفسرون: ذهب متوجهاً من المشرق قاصداً للشمال فوصل إلى ما بين السدين، وهما سدان كانا معروفين في ذلك الزمان، سدان من سلاسل الجبال المستطيلة يمنة ويسرة حتى تتصل بالبحر بين يأجوج ومأجوج وبين الناس، ووجد من دون السدين {قوماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا}[الكهف:٩٣]؛ لعجمة ألسنتهم، واستعجام أذهانهم، وقلة فهمهم، وقد أعطى الله ذا القرنين من الأسباب العلمية ما فقه به قولهم، فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج، وهما أمتان عظيمتان من بني آدم، فقالوا:{إنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ}[الكهف:٩٤] بالقتل والظلم وأخذ الأموال وغير ذلك، {فهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا}[الكهف:٩٤] أي: نجعل لك عطاءً وجعلاً ((عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا)) حائلاً يحول بيننا وبينهم، ودل ذلك على عدم اقتدارهم بأنفسهم على بنيان ذلك السد، وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه، فأرادوا أن يبذلوا له أجرة ليفعل ذلك، وذكروا له السبب الداعي لذلك: وهو إفساد يأجوج ومأجوج في الأرض، فلم يكن ذو القرنين ذا طمع ولا رغبة في الدنيا، ولم يكن تاركاً لإصلاح أحوال الرعية بل قصده الإصلاح، فلذلك أجابهم لمطلبهم؛ لما فيه من المصلحة، ولم يأخذ منهم أجرة على ذلك، وشكر ربه على تمكينه واقتداره، فقال لهم:((مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ)) أي: مما تبذلون لي وتعطونني، وإنما أطلب منكم أن تعينونني بقوة أيديكم ((أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا)) أي: سداً مانعاً من عبورهم إليكم، ((آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ)) أي: قطع الحديد، فأعطوه ذلك، ((حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ)) أي: الجبلين اللذين بينهما السد، ((قَالَ انفُخُوا)) أي: لإيقاد النار؛ لتشتد فتذيب النحاس، فلما ذاب النحاس الذي يريد أن يلصقه بين قطع الحديد ((قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا)) أي: نحاساً مذاباً بالنار، فأفرغ عليه القطر، فاستحكم السد استحكاماً هائلاً وامتنع به من وراءه من الناس من ضرر يأجوج ومأجوج:{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}[الكهف:٩٧] أي: يأجوج ومأجوج، أي: فمالهم استطاعة ولا قدرة على الصعود عليه؛ لارتفاعه، ولا على نقبه، لإحكامه وقوته، فلما فعل ذو القرنين هذا الفعل الجميل، وهذا الأثر الجليل، أضاف النعمة إلى موليها ومعطيها، فقال:((هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي))، أي: منّ فضله وإحسانه علي، وهذه حال الخلفاء والصالحين إذا من الله عليهم بالنعم الجليلة ازداد شكرهم وإقرارهم واعترافهم بنعمة الله تبارك وتعالى، كما قال سليمان عليه السلام لما حضر عنده عرش ملكة سبأ مع البعد العظيم، وجاءه في وقت قصير قال:(قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:٤٠].
بخلاف أهل التجبر والتكبر والعلو في الأرض، فإن النعم الكبار تزيدهم أشراً وبطراً، كما قال قارون لما آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة قال:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}[القصص:٧٨] فحلت عليه العقوبة، قال الله:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ}[القصص:٨١]، فلم ينسب النعم للمتفضل، ولم ينسب النعم للذي أعطى ومنع وخفض ورفع، فحلت عليه العقوبة:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ}[القصص:٨١]، ثم قال تعالى: ((فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي)) أي: لخروج يأجوج ومأجوج ((جَعَلَهُ دَكَّاءَ)) أي: ذلك السد المحكم المتقن، دكه دكاً فانهدم واستوى هو والأرض سواء، ((وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)).
ثم قال تعالى:((وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ))، قال السعدي: يحتمل أن الضمير يعود إلى يأجوج ومأجوج، وأنهم إذا خرجوا على الناس من كثرتهم واستيعابهم للأرض كلها يموج بعضهم ببعض، كما قال تعالى:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ}[الأنبياء:٩٦]، ويحتمل أن الضمير يعود إلى الخلائق يوم القيامة، وأنهم يجتمعون في ذلك اليوم فيكثرون ويموج بعضهم ببعض من الأهوال والزلازل العظام، وكلا المعنيين صحيح.
وتأمل معي هذا المشهد العظيم، حين يجمع الله الأولين والآخرين، وتدنو الشمس من رءوس العباد مقدار ميل قال الراوي: والله ما أدري ما الميل هل هو ميل المسافة أم ميل المكحلة؟ فاسمع بارك الله فيك حتى تعلم أن الأمر جد، وأن الأمر عظيم، فقد ثبت في الصحيحين:(إن الله تعالى ينادي يوم القيامة بآدم فيقول: يا آدم! فيقول: لبيك ربي وسعديك! فيقول: ابعث بعث النار، فيقول آدم: وما بعث النار؟ فيقول الله: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: فحينها يشيب الولدان، وحينها:{تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}[الحج:٢]، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج، قالوا: وأينا ذاك الواحد؟! قال: أبشروا: فإن منكم رجلاً ومن يأجوج ومأجوج ألفاً) فما أعظم هذا الموقف.
تذكر وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا النار تزفر من غيظ ومن حنقٍ على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدي إلى النيران عطشانا المشركون غداً في النار تلتهبُ والمؤمنون بدار الخلد سكانا قال سبحانه:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا * وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا * أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا * قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا}[الكهف:٩٩ - ١٠٦].