[الوصول إلى إندونيسيا]
بعد تسع ساعات متواصلة من الطيران بين السماء والأرض وصلنا يوم الجمعة في وقت صلاة العصر، واستقبلني أحد الإخوان الأفاضل هناك مع ابن له في العشرين سنة، فأعجبني منظره ومنظر ذلك الابن الذي يجيد اللغة العربية على أحسن ما يكون، فانطلقت معهم وفي الطريق قلت لهم: نريد مسجداً لكي نصلي فيه فقد حان وقت صلاة العصر، وأريد أن أجمع الظهر والعصر، فقال لي: لا أدري أين سنجد مسجداً قريباً، فقلت: أليست هذه بلدة مسلمة؟ قال: بلى، ولكن ليس من السهل أن تجد مسجداً قريباً، فقلت: الحمد لله! في بلادنا أينما تلتفت تجد المآذن ولا تبعد المساجد عن بعضها بعض، ففي كل مائة متر أو أكثر هناك مسجد، وأما هناك ففي كل خمسة أو عشرة كيلو مترات تجد مسجداً، فبحثنا عن مسجد فما وجدنا، فقالوا: لن يكون هناك وقت للصلاة إلا في الفندق الذي سنسكن فيه، فاتجهنا إلى مصلى الفندق أول ما وصلنا، فصليت الظهر وصليت معهم العصر، ثم خرجت معهم للغداء، فكلما ألتفت يمنة ويسرة لا أرى إلا كاشفات عاريات، والله! لا أرى إلا مصائب في كل مكان.
إندونيسيا المسلمة لا تعرف من الإسلام إلا اسمه، إندونيسيا المسلمة لا تعرف من مظاهر الإسلام إلا الاسم فقط، والأعجب أن عطلتهم يوم السبت والأحد! قلت: ماذا تصنعون يوم الجمعة؟ قال: الناس في أعمالهم، قلت: وكيف يصلون الجمعة؟ قال: يصلي من يصلي ويبقى من يبقى، فقلت: ويوم السبت والأحد هل تذهبون إلى الكنائس؟ قال: لا، لكن هذه هي عطلة البلد الرسمية.
الله أكبر! بلد مسلم لكن الصليب فرض عليهم أن تكون عطلتهم مع أحفاد القردة وأبناء الصليب، ثم قلت: فوّت هذا الأمر، لكن نساؤكم في كل مكان محجبات بأضيق الثياب، فما رأيت محجبة تلبس وسيعاً إلا النساء الكبيرات، وأما فتياتهم فلا يعرفن إلا البنطال، والله! ما رأيت امرأة تغطي وجهها إلا امرأة واحدة من أهل هذه البلاد مع زوجها في زيارة إلى هناك، وأما بناتهم ونسائهم فما رأيت من تغطي وجهها أبداً، والغالب عليهن حجاب على الرأس، وبنطال ضيق يفصِّل الجسد أشد التفصيل.
وفي مطار من المطارات رأيت كاشفات عاريات، والتفت أهل المطار إلى امرأة محجبة حجبت رأسها ولكنها ضيقت ثيابها تضييقاً حتى جعلت كل من في المطار يلتف حولها، والله! لو كشفت شعرها ولبست ثوبها كان أحسن من أن تفعل ما فعلت، أما قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:٥٩].
فتغدينا ثم رجعت إلى فندقي وبت تلك الليلة وأنا في أهبة الاستعداد وعلى أحر من الجمر إلى أن أذهب إلى الأماكن المنكوبة، فأنا ما جئت للمكوث في جاكرتا لرؤية المنكرات، ولقد رأيت في ليل جاكرتا عجباً! فقد أخذوني ليلاً نمشي من مكان إلى مكان فما رأيت إلا نساء على جوانب الطريق، قلت: ما هذا؟ قالوا: هذا ليل جاكرتا، نوادي ليلية وملاه ومراقص ودعارة في الشوارع وفي كل مكان، قلت: أليس هذا بلداً مسلماً؟! فنحن نستنكر رؤية من تكشف وجهها فكيف وأنت ترى نساء يعرضن أنفسهن على جوانب الطريق؟! قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، متى سأسافر إلى هناك؟ فأنا أريد أن أفر من هذه المنطقة، قال لي: ليس هناك مجال إلا يوم الإثنين أو الثلاثاء، فعطلتنا يوم السبت والأحد، ويوم السبت والأحد ليس هناك مكاتب ولا مؤسسات طيران تعمل فلا بد من الانتظار حتى يوم الإثنين صباحاً لكي نرتب أمور السفر إلى إقليم آخر، ونحن الآن في جاكرتا، ونحتاج للوصول إلى جزيرة سومطرة التي فيها الإقليم المنكوب أكثر من ساعتين ونصف بالطائرة، ولأن الفترة فترة إغاثة وفترة نكبة فقد كانت الوفود تأتي من كل مكان من العالم، فالحجوزات ملأت الفنادق والمطارات والشقق، والحجوزات صعبة جداً قلنا: سننتظر، وسنرى ماذا نستطيع أن نفعل في يوم الإثنين.
واستغلالاً ليوم السبت جاءني في الساعة الواحدة صاحبي وقال: سآخذك إلى معهد أيتام فيه مدرسة لكفالة الأيتام وتربيتهم، وهي ابتدائية ومتوسطة وثانوية، ثم بعد أن يتخرجوا من الثانوية يدخلون في معهد لكفالة الدعاة لمدة سنتين ثم يتخرجون دعاة، يتقنون اللغة العربية ويتقنون بعض العلوم الشرعية ثم ينشرونهم في قراهم التي أخذوهم منها، وهناك في المعهد ارتاح قلبي، فعلى مدى ساعتين ونصف ونحن في طريقنا إلى هناك، وبسبب الزحام الشديد امتدت الرحلة إلى أربع ساعات، فطرقهم ضيقة، وزحامهم شديد، وفي طول الطريق لا ترى إلا معاقل للمنكرات، ماذا يحدث بك وأنت قد تعودت على عدم رؤية مثل هذه المناظر؟ إنه يضيق صدرك شيئاً فشيئاً.
ثم وصلت إلى ذلك المعهد فانشرح صدري وأنا أرى الصغار في حلقات القرآن، وأرى الكبار في المسجد يتعلمون ويعلمون، فاطمأن قلبي نوعاً ما، وعلمت أنه لازال هناك خير، صحيح أن الغالب شر لكن هناك خير وأهل الخير يعملون على قدر استطاعتهم وعلى قدر إمكاناتهم، وكل الجهود التي رأيناها هناك هي مقدمة لهم من خارج إندونيسيا، إما من هذه البلاد، أو من إحدى دول الخليج التي تساعدهم وتعاونهم على نشر الدعوة الصحيحة، والغالب على إندونيسيا التصوف إلا ما رحم الله، فهم لا يعرفون من الدين إلا التصوف، ويظنون أن هذا هو الدين، فوقفت حائراً متسائلاً أقول: يا ألله! كيف استطاع أهل المنهج الخاطئ أن ينتشروا في إندونيسيا كلها؟ وأين أهل المنهج الصحيح؟ وكيف استطاع أهل التصوف أن ينتشروا في هذه الجزر كلها ولم يستطع أهل المنهج الحق أن ينتشروا في كل مكان، ويصححوا المنهج؟ أما كان المنهج صحيحاً؟ بلى، كان المنهج صحيحاً ثم اجتهد هؤلاء حتى غيروا منهج أهل البلد وقلبوه رأساً على عقب! فلما دخلت المعهد اطمأن قلبي، ثم رجعنا من المعهد في الثامنة ليلاً بعد أن سمعنا من قراءات الصغار وكلام الكبار، وشهدنا مواقف جميلة معهم، ووصلنا في العاشرة تقريباً فالطريق أيضاً مزدحم، وفي يوم الأحد لم يكن هناك إلا الانتظار حتى يأتي يوم الإثنين، فكنا نرتب فيه أمور السفر، قلت له: لا أريد أن أذهب إلى أي مكان سأخلو بنفسي في هذا اليوم استعدادً للسفر، وبعد صلاة الظهر من يوم الأحد خرجت أنا بنفسي أمشي على قدمي وأترقب، والجميع ينظر إلي وكأني شيء غريب عندهم: رجل صاحب لحية وثوب يمشي في تلك الطرقات، فالجميع ينظر إلي باستغراب، وبعضهم يشير إلى لحيتي، وبعضهم يأتيني ويقول لي: أنا مسلم، قلت: سأسأل المارة أين أقرب مسجد؟ لكنهم يظلون يفكرون: هاه هنا لا لا هناك، إلى أن وصلت إلى أقرب مسجد لكي أصلي فيه صلاة الظهر، فدخلت المسجد وقد أذن لصلاة الظهر، فوالله الذي لا إله إلا هو! مئات من البشر خارج المسجد، وما صلى معنا إلا صف واحد، فتعجبت كيف يسمعون النداء ولا يجيب منهم أحد، فعلمت أن المأساة أعظم مما تتصور، يسمعون المنادي ينادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح، والله! ما يجيب منهم أحد، إنهم يصلون لكنهم لا يعترفون بصلاة الجماعة، حتى أني حين ناقشت أحدهم في وجوب صلاة الجماعة قال لي: أنت حنبلي؟ أنتم تجبرون الناس على الصلاة في المساجد، قلت: ما أقيمت المساجد إلا لصلاة الجماعة، ولا يتخلف عن صلاة الجماعة إلا ضعاف الإيمان.
وتجاوزت أحزاني في المسجد وخرجت أبحث عن مطعم قريب، ويوجد هناك مطاعم عربية كثيرة، فالسواح العرب كثير من كل مكان، لما منعنا من السفر إلى شرق آسيا حول شباب الضياع وجهتهم إلى إندونيسيا، فأصبحت إندونيسيا هي محطة الضياع للشباب العربي، وأصبحت هي مكان اللهو والخمر والزنا بالنسبة للسواح العرب والشباب المسلمين، فدخلت المطعم وهم يتكلمون العربية؛ لكثرة السواح الذين يأتونهم، ثم أكلت، ثم فوجئت بدخول خمسة من الشباب، والله! لولا أنهم يتكلمون العربية ما ظننت أنهم من أبناء المسلمين، إن أشكالهم ورءوسهم لا تدل على ذلك، لقد صبغوا رءوسهم هذا شعره أخضر، وهذا شعره أصفر، وهذا شعره أحمر، فقلت: يا ألله هكذا يصنعون إذا أتوا وابتعدوا عن أهليهم، فأردت أن أكلمهم، لكن بعد أن انتهيت بحثت عنهم فإذا هم دخلوا من الباب الأول وخرجوا من الباب الآخر، فتحملت أحزاني ورجعت إلى فندقي، وبت تلك الليلة على أحوال لا يعلمها إلا الله، فهذه مشاهد تجعل الإنسان يتفكر ويقول: هل حقيقة أني في أكبر بلد مسلم؟ وهل حقيقة أني بين شعب يؤمن أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ إندونيسيا بلد رضخ تحت الاستعمار الهولندي عشرات السنين فغير فيه المستعمر كل شيء، حتى أيام العيد غيروها، وأنا أعرف أننا قد نختلف في عيد الفطر لاختلاف المطلع واختلاف الرؤيا، لكن لا نختلف في عيد الأضحى، والغريب أن العيد هنا كان يوم الخميس وكان العيد هناك يوم الجمعة! قلت: كيف هذا؟! قال: عيدنا مع الحكومة، وليس مع المسلمين، قلت: بالأمس الأربعاء وقف المسلمون في عرفة فاليوم هو يوم النحر وكان يوم الخميس، فإذا كان عيدكم يوم الجمعة فماذا نسمي يوم الخميس؟! يوم الأربعاء يوم عرفة ويوم الخميس يوم النحر، ويوم الجمعة يوم القر بمنى، فماذا تسمون هذه الأيام؟ هذه أيام لها مسميات، قال: عيدنا مع الحكومة، والله! ما خرجوا في الشوارع بالاحتفالات إلا يوم الجمعة، وباقي العالم الإسلامي في عالم آخر.
وجاء يوم الإثنين، فذهبت أنا ومن استقبلني إلى مكتب جمعية إحياء التراث، وبدأنا بترتيبات السفر، وكان معي مبلغ من المال جمعته من بعض الإخوة الأفاضل من هنا وهناك؛ لعلّي أقدم به بعض العون للمنكوبين وللمصابين، وأجبر بعض الخواطر، وإلا فالخواطر تحتاج إلى ملايين حتى تجبر، فقد خسروا بيوتهم وممتلكاتهم وكل شيء، وما خرجوا من الدمار إلا بثيابهم التي يلبسونها، فخسروا كل شيء ولم يبق لهم أمل إلا بالله ثم بإخوانهم المسلمين، فمعي مبلغ من المال صغير، ولما صرفناه أصبح كبيراً، فقلت: يا إخوان! كيف أحمل هذه المبالغ وفيها أصفار كثيرة لا تستطيع أن تعدها، لكثرة أصفارها، فالعملة الإندونيسية ما فيها خير، فأين ذهبت البركة في الأموال، والبركة في الأعمار، والبركة في الثروات؟! كلها ذهبت وانطمست بسبب الذنوب والمعاصي، ووالله الذي لا إله إلا هو! إندونيسيا ليست بالبلد الفقيرة، وقد أخبرني أهلها عن كثي