[باختصار مع الذين خلفوا]
إنه خبر توبة زكاها الله في القرآن، ثم أمرنا الله أن نكون منهم ومعهم، قال سبحانه: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:١١٨] ثم اسمع إلى هذا النداء العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:١١٩].
جاء خبرهم عند البخاري مفصلاً وأنا أسوقه لكم باختصار: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ليتأهبوا للغزو، وكان ذلك في غزوة تبوك، كان الحر شديداً والسفر بعيداً والعدو كثيراً وعنيداً.
يقول كعب بن مالك راوي الحديث وأحد الثلاثة الذين خلفوا: والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت في تلك الغزوة، ولما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه قلت: غداً ألحقهم، ولكن لم يقدر لي ذلك، ولقد هممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت، ولكن لم يقدر لي ذلك، ولقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عني وهو في القوم بتبوك فقال رجل: يا رسول الله حبسه برداه ونظره في عطفه، فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت، والله يا رسول الله ما علمت عنه إلا خيراً! فأين هم الذين يدافعون عن أعراض إخوانهم اليوم، يقول كعب: فلما بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم توجه قافلاً -أي راجعاً- حضرني همي وطفقت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غداً؟ فلما قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حل بالمدينة قادماً زاح عني الباطل، وعلمت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت على أن أصدقه في الحديث.
جاء المخلفون وكانوا بضعة وثمانين فطفقوا يعتذرون ويحلفون، فقبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم علانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله.
أحبتي! الله لا ينظر إلى المظاهر ولكن الله سيبتلي السرائر! قال: فلما جئته تبسم تبسم المغضب، فلما جلست بين يديه قال لي: ما خلفك؟! ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قلت: بلى! والله لقد علمت لئن حدثتك بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله.
أحبتي! قد تأخذ ما عند فلان أو فلان بالكذب أو الافتراء، ولكن والله الذي لا إله إلا هو إنك لن تأخذ ما عند الله إلا إذا صدقت مع الله، قد تنصب على فلان وتضحك على فلان وتأخذ ما تشاء، ولكن لن ينجيك من الله إلا أن تصدق مع الله.
قال كعب: والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك! يقول كعب: فقمت فلامني من لامني، وقالوا لي: يسعك ما وسع غيرك ويكفيك استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لك، فقلت: هل قال مثل قولي أحد؟ فذكروا لي رجلين هما: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية، فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا نحن الثلاثة، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لنا الأرض فلا هي الأرض التي نعرفها، بل حتى تنكرت لنا أنفسنا التي بين جنوبنا فلا هي بالأنفس التي نعرفها، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، أما صاحباي فقعدا في بيوتهما يبكيان، أما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج لأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق ولا يكلمني أحد، كنت آتي النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه فأسلم عليه بعد صلاته وأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه أسارقه النظر، فلما طال الأمر واشتد ذلك علي، تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام، قلت: أنشدك بالله يا أبا قتادة هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت.
فناشدته فسكت.
فناشدته في الثالثة فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، وخرجت أمشي في سوق المدينة، فإذا بنبطي من أهل الشام يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فأشار الناس إلي.
فجاءني فدفع لي كتاباً من ملك غسان يقول فيه: لقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولن يجعلك الله بدار مضيعة أو هوان، إلحق بنا نواسك! فعلمت أن هذا من زيادة البلاء فتيممت به التنور ورميته فيه.
يمتحن العبد على قدر إيمانه؛ إن كان في إيمانه شدة شدد عليه في البلاء وإن كان في إيمانه رقة خفف عنه في البلاء! يقول كعب: فعلمت أن هذا من زيادة البلاء فتيممت به التنور ورميته فيه، فلما مضت أربعون من الخمسين ليلة، جاءنا الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم أن نعتزل نساءنا، قلت: أأطلقها أم ماذا؟ قال: بل اعتزلها، فقلت لها: إلحقي بأهلك حتى يقضي الله في هذا الأمر، ولقد قيل لصاحبي مثل ما قيل لي، أما امرأة هلال بن أمية فجاءت للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه، فقال: لا.
ولكن لا يقربنك، فقالت: والله الذي لا إله إلا هو ما به حركة إلى شيء ولا زال يبكي من أمره إلى يومه هذا.
هكذا حال الصادقين! دموعهم حارة مدرارة بالليل والنهار! يقول كعب رضي الله عنه: فلبثت بعد عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صليت صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، وأنا على تلك الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت؛ إذا بصارخ يصرخ على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر! يا كعب بن مالك أبشر! فخررت ساجداً وعرفت أنه قد جاء الفرج، وأنه قد أذن النبي صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا، فذهب الناس يبشروني ويبشرون صاحبي هلالاً ومرارة، فلما جاء من يبشرني نزعت ثوبي فكسوته إياهما ببشارته، ووالله ما أملك غيرهما ,ثم استعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجاً بعد فوج يهنئونني بالتوبة يقولون لي: لتهنك توبة الله عليك! لتهنك توبة الله عليك! فلما دخلت المسجد قام لي طلحة بن عبيد الله مهرولاً فصحافحني وهنأني، ووالله ما أنساها لـ طلحة.
يقول كعب: فلما سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم قال لي ووجهه يبرق من السرور وكان إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر؛ قال: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك! قلت: أمن عندك يا رسول الله أم عند الله؟ قال: بل من عند الله! فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله! إنما نجاني الله بالصدق، وإن من صدق توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت، ووالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني.
تأمل أيها التائب، وتأملي أيتها التائبة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ كعب: (أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك).
يا الله! ما أجمل التوبة! وما أجمل الرجوع إلى الله! التوبة ابتلاء وامتحان، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:٤٢].
أحبتي! صدق أقوام في توبتهم فصدق الله معهم فعفا عنهم وزكاهم.
واسمع واسمعي معي بعضاً من آثار توبة الصادقين والصادقات: فمنهم من يحزن على اقتراف المعصية حزناً لا يفارقه حتى الموت، ومنهم من يهجر الناس ويعتزلهم ويضج بيته بالبكاء، ومنهم من يتمنى أن يكون تراباً حتى لا يحاسبه الله على ذنبه ومعاصيه، ومنهم من يمرغ خده بالتراب حتى يذوق طعم الذلة عل الله أن يرحمه على تلك الحال، ومنهم من يتعلق بأستار الكعبة مطرقاً خاشعاً يطلب العفو من الله، ومنهم من يجوب الصحراء هائماً على وجهه يعاهد الله عز وجل ألا يرجع إلى بيته إلا وقد تاب وتاب عليه الله، ومنهم من يعتكف في بيت من بيوت الله يذكر الله ويتلو القرآن ويركع ويسجد والدموع تتزاحم في عينيه ندماً على ما فرط في جنب الله، ومنهم من يحس بآلام ورعشة وببكاء واضطراب كالحية يتغشاها الألم ويخر مغشياً عليه حياء من الله، ومنهم من يشهق شهقة يموت بعدها خوفاً ووجلاً من الله، ومنهم من بلغ من عبادة ربه أنه يوم مات كأنه جذع محترق من عبادة الله.
أخي! أخية! لا غرابة فيما ذكرت وقلت، فالخوف من الله أرجف قلوب العصاة وكاد يخلعها من مكانها، فكم رعدت بروق الخوف في القلوب القاسية فذهبت عنها سحب الغفلة وأمطرت دموع الخشية، فصفا سماء القلب واستنار وطلعت عليه شمس النهار، وسبحان الذي قال عن التائبين: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:٣٧].
بذكرك يا مولى الورى نتنعم وقد خاب قوم عن سبيلك قد عموا إلهي تحملنا ذنوباً عظيمة أسأنا وقصرنا وجودك أعظم ألست الذي قربت قوماً فوفقوا ووفقتهم حتى أنابوا وأسلموا لك الحمد عاملنا بما أنت أهله فسامح وسلمنا فأنت المسلم