[صناعة القرآن لابن مسعود رضي الله عنه]
وسأحدثكم عن حبر من أحبار الأمة، وفذ من أفذاذها، فلا يذكر أهل القرآن إلا ذكر فيهم، إنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
كان في منأى عن سماع آيات القرآن يوم أن جهر به النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، فقد كان رويعي غنم فقيراً معدماً يرعى الغنم لـ عقبة بن أبي معيط بقراريط قليلة.
يروي خبر إسلامه وبداية عهده مع الإسلام حتى أصبح سادس ستة من الذين دخلوا في الإسلام فيقول: (كنت أرعى الغنم في يوم صائف شديد الحرارة، إذ أقبل علي رجلان يظهر على سيماهما الوقار، فجاءاني فقالا لي: اسقنا من هذه الشياه، قلت: أنا مؤتمن، قال: فأعجبهم كلامي، فقال لي أحدهما: أحضر لنا شاة صغيرة لم ينز عليها فحل، فقلت في نفسي: ومتى كانت الشياه الصغيرة التي لم ينز عليها الفحول تدر لبناً؟ فجئتهم بأصغر الشياه، قال: فوضع يده على الضرع، ثم أخذ يردد كلمات، فإذا بالضرع قد انتفخ، فذهب صاحبه فأتى بحجرة مقعرة، وبدأ الحليب يدر من ذلك الضرع، وأنا أقول: كيف حدث هذا؟! فشرب الرجل وشرب صاحبه، وشربت معهم حتى ارتوينا، قال: ثم وضع يده على الضرع مرة ثانية وقرأ بكلمات فعاد الضرع إلى ما كان عليه، فلما أراد أن ينصرف قلت له: علمني من هذه الكلمات التي قلتها، قال: إنك غليم معلم)، وهذان الرجلان هما: النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ورويعي الغنم هو ابن مسعود الذي شهد تلك المعجزة ومعجزات كثيرة بعدها، بل كان هو إحدى تلك المعجزات التي رباها النبي صلى الله عليه وسلم.
ومرت أيام قليلة، وخرج ابن مسعود من الظلمات إلى النور، وترك رعي الغنم، وأصبح خادماً لسيد البشر صلوات ربي وسلامه عليه، بل أصبح من المقربين من النبي صلى الله عليه وسلم، وما غدا النبي صلى الله عليه وسلم إلا وابن مسعود معه، وما رجع من روحته إلا وابن مسعود معه، يحمل نعله، ويحمل عصاه، ويقدم له وضوءه، بل وصل إلى درجة من القرب من النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذنك علي -يا ابن مسعود - أن ترفع الحجاب وتدخل).
يقول أبو موسى الأشعري: كنا حيناً ما نرى ابن مسعود إلا من آل البيت.
وقد علمه القرآن كيف تكون الشجاعة، وكيف يكون الصدع بالحق، فلما انتقلت الدعوة من السرية إلى الجهرية اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم -وأكثرهم من الضعفاء- ومن بينهم ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فقالوا فيما بينهم: ألا من رجل يخرج إلى نوادي مكة يجهر بالقرآن على مسمع وعلى مرأى من أكابر قريش؟ ألا من رجل شجاع يخرج ويصدع بالقرآن على مسامع أولئك الكفار؟ فقال ابن مسعود: أنا، قالوا: لا؛ فليست لك عشيرة تحميك، وإنا والله! نخشى عليك من بطش أولئك الكفار، فقال: والله! لا يصدع بالقرآن إلا أنا، فكان أول من صدع بالقرآن على مسمع من مكة كلها، فخرج إليهم في ناديهم، وقد اجتمع القوم كبراؤهم وساداتهم في ضحى أحد الأيام، فإذا برويعي الغنم يعتلي مكاناً قريباً منهم ثم يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:١ - ٤]، فإذا هم يسمعونه، فقال قائل منهم: ماذا يقرأ هذا الرجل؟! فقالوا: إنه يتلو الكلام الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقاموا إليه فأوجعوه ضرباً حتى أدموه رضي الله عنه وأرضاه، ورجع إلى القوم، فلما رأوا حاله قالوا: هذا ما كنا نخشاه عليك يا ابن مسعود! قال: والله! لهم أهون في عيني مما كانوا من قبل، ولئن أردتم لأصدعن به مرة ثانية على مسمع ومرأى من الجميع، فلا التهديد ولا الضرب ولا الوعيد يحول بينهم وبين الصدوع بالحق، وهكذا رباهم القرآن.
كان ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه يتفجر علماً، كيف لا وهو أقرب الناس من النبي صلى الله عليه وسلم؟! فقد كان من أقرب الناس هدياً وسمتاً واتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى وصل إلى درجة من الرفعة لا يعلمها إلا الله، فقد بلغ به القرآن درجة عالية سامية.
ففي مرة من المرات، وبينما عمر في عرفة إذ جاءه رجل من الكوفة فقال: يا أمير المؤمنين! جئتك من الكوفة، وفيها رجل يقرأ القرآن على الناس عن ظهر قلب، فانتفخت أوداج عمر، وغضب من هذا، فقال: من هو؟ قال: ذاك رجل يقال له: عبد الله بن مسعود، قال: فانفرجت أسارير عمر وتبسم في وجه الرجل، وقال له: (والله لا أعلم رجلاً على وجه الأرض أحق من ابن مسعود في هذا) أي: لا أعلم أحداً على وجه الأرض أحق من ابن مسعود أن يقرأ القرآن عن ظهر قلب، ثم قال عمر للرجل: (أنا سأخبرك بخبر ابن مسعود: كنا ليلة أنا وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتصف الليل خرجنا ومررنا بطريقنا على المسجد، فإذا برجل قائم يقرأ القرآن بصوت طري عذب مدي، فتوقف النبي صلى الله عليه وسلم يستمع لقراءته، ولم نميز من كان ذلك الرجل، قال: ثم قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: من سره أن يسمع القرآن غضاً طرياً كما نزل فليسمعه عن ابن أم عبد)، رضي الله عنه وأرضاه، فما كان ذلك الذي يقرأ القرآن في ظلام الليل غضاً طرياً كما نزل إلا ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فـ عمر يقول للرجل: أنا أخبرك بخبره: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا في تلك الليلة: من سره أن يسمع القرآن غضاً طرياً كما نزل فليسمعه عن ابن أم عبد)، فمن الذي زكى تلاوته؟ إنه الذي ينزل عليه الوحي صلوات ربي وسلامه عليه، قال عمر: (ثم شرع ابن مسعود بالدعاء والنبي صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعائه ويقول: سل ابن مسعود تعط، سل ابن مسعود تعط)، قال: فلما أصبح الصباح قلت -يعني عمر - والله! لأذهبن أبشر ابن مسعود بذلك، وكيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعائه، ويقول: (سل ابن مسعود تعط)؟ قال: فلما أصبح الصباح غدوت إليه أبشره، فإذا بـ أبي بكر رضي الله عنه قد سبقني إلى بشارته.
وبلغ بقراءته القرآن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يناديه من حين إلى حين ويقول له: (اقرأ علي القرآن يا ابن مسعود!)، وهذا يدل على أنه وصل إلى درجة عالية من إتقان القرآن والخشوع عند قراءته؛ لأن النبي الذي تنزل عليه القرآن كان يقول له: (اقرأ علي القرآن يا ابن مسعود! فكان يقول: أقرأه عليك وعليك أنزل يا رسول الله؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت من سورة النساء حتى إذا بلغت قوله تبارك وتعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:٤١ - ٤٢]، قال: حسبك يا ابن مسعود! قال: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان بأبي هو وأمي).
ولك أن تتخيل ذلك الموقف والمشهد العظيم.
بل بلغ من حب النبي صلى الله عليه وسلم له أنه قال: (لو كنت مؤمراً أحداً عليكم من غير شورى لأمرت عليكم ابن مسعود)، فمن الذي صنع ابن مسعود؟ لقد صنعه القرآن، صنع ذلك الرجل كلام الله تبارك وتعالى حين قرأ القرآن ووعاه، وتدبر آياته وعمل بمقتضاه، فأحل حلاله، وحرم حرامه، يقول ابن مسعود عن نفسه: (أخذت من فم النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من سبعين سورة، وما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ومتى نزلت، ولماذا نزلت)، قال هذا هو العلم الحقيقي: (أخذت من فم النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من سبعين سورة)، مباشرة فماً لفم: (وما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ومتى نزلت، ولماذا نزلت، ولو كنت أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله على وجه الأرض تمتطى إليه المطايا لامتطيت إليه)، إنهم رجال صنعهم القرآن ورفع قيمتهم وجعل لهم شأناً، وقد تكفل الله بحفظه وبرعايته.