[كيفية المحافظة على بنيان الإيمان]
إن حفظ البنيان لا بد فيه من المجاهدة، ولا بد فيه من الصبر، ولا بد من الصدق مع الله تبارك وتعالى {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:٣٣]، فالعمر مهما طال فهو قصير، والدنيا مهما عظمت فهي حقيرة، واسمع كيف يستشعر المؤمن الإيمان وحلاوته.
(دخل النبي صلى الله عليه وسلم على رجل في المسجد فقال له: كيف أصبحت يا حارثة؟ فقال: أصبحت مؤمناً حقاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وما حقيقة هذا الإيمان؟)، اسمع علامات الإيمان، وعمل أهل الإيمان قال: (عزفت نفسي عن الدنيا)، وهكذا المؤمن، فقلبه ليس معلقاً بالدنيا وحطامها، وكيف يتعلق في الدنيا وما فيها والله يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:٥]، يقول الناظم في الدنيا: إذا هدمت فزدها أنت هدماً وحصن أمر دينك ما استطعتا ولا تحزن على ما فات منها إذا ما أنت في أخراك فزتا أراك تحب عرساً ذات خدر أبت طلاقها العقلاء بتا وتطعمك الطعام وعن قليل ستطعم منك ما فيها طعمتا تفر من الهجير وتتقيه فهلا من جهنم قد فررت فإنك لا تطيق أهونها عذاباً ولو كنت الحديد بها لذبتا قال: (عزفت نفسي عن الدنيا)، ثم إن الإيمان لا بد أن يترجم إلى عمل.
يقول الحسن البصري: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه اللسان، وعملت به الجوارح والأركان.
فالإيمان ليس بالتمني ولا بالتخلي، ولابد أن يكون مترجماً إلى عمل، قال: (فأسهرت ليلي قياماً، وأظمأت نهاري صياماً)، وهو لا يتكلم عن رمضان، نحن لا نعرف الصيام ولا القيام إلا من رمضان إلى رمضان، وهذا يتكلم عن سائر الأيام طوال العام فليلهم قيام، ونهارهم صيام.
عبّاد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه على الخد أجراه وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم خرجوا إلى الموت يستجدون رؤياه فيا ربِ ابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً تليداً قد أضعناه يقول: (أسهرت ليلي، وأظمأت نهاري).
ثم إذا ارتقى الإيمان بالعبد فإنه يصل به إلى مرتبة الإحسان؛ لأن الدين ثلاث مراتب: إسلام، فإيمان، فإحسان، نحن مطالبون -أيها الغالي- أن نرقى بإيماننا وأن نرقى بمستوانا يوماً بعد يوم {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:٢]، إنه التفاضل في حسن العمل، فالكل يصلي لكن شتان بين مصل ومصلٍ، والكل يعمل الطاعات لكن هناك فرق بين من يحسن الطاعات ويراقب الله فيها، وبين من يؤديها أداء واجب.
إن الدين عهد وميثاق بيننا وبين الله، فكم الذين يقومون بالدين ويحافظون عليه؟ لقد سمَّى الله الذين أوفوا بالعهد مع الله رجالاً فقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:٢٣]، والدين عهد بيننا وبين الله، والمطلوب أن نقوم به على أحسن وأتم وجه.
ولما ارتقى الرجل في إيمانه قال: (أسهرت ليلي، وأظمأت نهاري)، ويقول: (كأني أرى عرش الرحمن بارزاً أمامي، وكأني أرى أهل النار يتعاوون فيها، وكأني أرى أهل الجنة يتزاورون فيها)، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت إنسان عرفت فالزم) أي: هذا هو الإيمان، فهو قول وعمل.
ثم اسمع إلى ثمرات الإيمان، ففي يوم بدر يقتل حارثة رضي الله عنه وأرضاه، فتأتي أم حارثة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: (يا رسول الله! أين حارثة، هل مكانه في الجنة فأفرح له، أم في النار فأجتهد في البكاء عليه؟ فيقول لها يا: أم حارثة! إنها ليست جنة يا أم حارثة! ولكنها جنان، وإن حارثة أصاب الفردوس الأعلى)، بماذا وصل إلى تلك المرتبة الرفيعة العالية عند الله؟ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:٩ - ١٠]، فالإيمان هو الذي صنع أولئك الرجال، وأقام ذلك البنيان تعلقهم بالله، وما عند الله هو الذي قادهم إلى جنات النعيم، واليوم عندما ضعف الإيمان في حياتنا أصبح الإيمان لا يكفي لإيقاظ الرجل لصلاة الفجر، اليوم الإيمان لا يكفي ليترك الرجل منامه وفراشه من أجل الله تبارك وتعالى.
يقول الشاعر مخاطباً نفسه: تريدين إدراك المعالي رخيصة ولا بد دون الشهد من إبر النحل إن الإيمان هو الذي يصنع البنيان، وكلما قوي الإيمان كان البنيان قوياً، وكلما ضعف الإيمان بدأ البنيان بالسقوط.
فتعالوا! نحفظ على الطاعات، ونجاهد النفس، ونلزمها على فعل الطاعات وترك المحرمات؛ لكي لا تصير القضية مخلوطة في حياتنا.
وإذا استشعرنا الإيمان فوالله! لن نرضى به بدلاً، إذا استشعرت حلاوة الإيمان فثق تمام الثقة أنك لن ترضى به بديلاً، واسأل أولئك الذين ساروا على طريق الاستقامة، اسألهم عن الماضي الذي كانوا فيه عندما كانوا يهدمون البينان، واسألهم الآن هل ترجعون إلى الماضي؟ إن أحدهم لا يرجع إلى ما كان عليه أبداً؛ لأنه استشعر الإيمان وحلاوته، وكلما تقربت وزدت في الطاعات كان أثر الإيمان واضحاً في حياتك (من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً)، وهكذا الإيمان! قال الله عن أصحاب الكهف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:١٣]، فالإيمان يزيد، والهداية ليست باباً واحداً بل أبواب، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:١٧].
إن المسئولية مسئوليتك أنت، فكلما اجتهدت في المسير، وقمت على بناية البنيان ورعايته، فثق تمام الثقة أن المردود أعظم في الدنيا قبل الآخرة.
فما رأيت شيئاً يصنع الرجال كالصلوات الخمس، وهو عمر الخبير يقول: من كان محافظاً عليها كان على غيرها أحفظ، ومن كان لها مضيعاً كان لغيرها أضيع.
وما أظن أن رجلاً يحافظ على الصلوات الخمس يبني ويهدم، وإنما جاءت قضية الهدم والبناء لأولئك الذين صلاتهم متقطعة، وأشهد بالله العظيم لو أن رجلاً استقام في صفوف المصلين أربعين يوماً لاهتدى، ولن يرضى أن يعود إلى الماضي القبيح، فهل تستطيع أن تجاهد النفس لله أربعين يوماً؟ لقد جاهد الرجال سنين طويلة، فهذا يقول: منذ أربعين عاماً ما فاتتني تكبيرة الإحرام، والآخر يقول: منذ خمسين عاماً ما فاتتتني لا في سفر ولا في حضر، أليست هممهم عالية؟ أليس إيمانهم راسخاً؟ ثق تمام الثقة وخذ بالعلاج، فالمريض إذا مرض يذهب إلى الطبيب ثم يوصف له العلاج، فإذا داوم وحافظ على العلاج فبإذن الله يشفى، وضعف الإيمان علاجه الاستقامة على الطاعات، وفي نفس الوقت ترك المحرمات والمعاصي، وثق بعد الأربعين أنك لن ترضى أن تعود إلى الماضي السابق من الهدم والبناء في نفس الوقت، وما تدري وأنت تبني إلا ويقال لك: توقف انتهت المدة، وما يدريك لعل الساعة تكون قريبة.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحفظني وإياكم بحفظه، وأن يعينني وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا -يا ربنا- من الراشدين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم اجمع شملنا، ووحد صفنا، واعل شأننا، وأصلح ولاة أمورنا، اجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين! اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك الموحدين.
أستغفر الله العظيم، وصلى الله على محمد.