جاء في السير أن المسلمين عندما بدءوا بحفر الخندق استعصت عليهم صخرة، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاء -بأبي هو وأمي- وأخذ الفأس أو المعول من بين أيديهم، وضرب الصخرة مرة واحدة، فخرج منها مثل الشرر والنور، فقال:(الله أكبر! رأيت أقوام اليمن، فتحت لي قصور اليمن) ثم ضرب الضربة الثانية، فقال:(الله أكبر! أُريت قصور الشام البيضاء، ثم ضرب الثالثة، فقال: الله أكبر فتحت لي قصور العراق وما فيها) يتكلم بهذا وهو محاصر في المدينة، والعدو جاءهم من فوقهم ومن أسفل منهم، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، ولكنها الثقة بوعد الله، والثقة بنصر الله جل في علاه، قال تعالى:{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}[غافر:٥١] فتعلمت الأمة معنى العزة في كل الظروف وفي كل الأحوال، أمماً وآحاداً.
وهاهو خباب يؤتى به إلى مكة وهو الذي صنع بهم العجب يوم بدر، بل في كثير من المواجهات، فخرج قريش وقد جمعوا نساءهم وأطفالهم، وألبوا عليه من كل مكان، ونصبوه على جذع شجرة، فقالوا له: أتتمنى أن محمداً مكانك وأنت بين أهلك؟ واسمع هذا الحب الصادق لله ولرسوله مهما كانت الظروف ومهما كانت الأحوال- قال: والله ما وددت أن محمداً يشاك بشوكة وأنا آمن مطمئن بين أهلي.
قيل له: قل في الإسلام، أو قل في محمد وأصحابه؛ لكنه والله ما نطق بكلمة كفر، وإنما طلب منهم الصلاة، فصلى وأسرع في صلاته، وقال لهم: حتى لا تظنوا أني أخاف من الموت فكان سلاحه الثقة واليقين والصبر والدعاء، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إنك ترى ما يصنع بنا، اللهم فبلغ رسولك أنا بلغنا الرسالة، وأدينا الأمانة، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ثم قال: لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم وقربت من جذع طويل ممنع إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصد الأعداء لي عند مصرعي وقد خيروني الكفر والموت دونه وقد هطلت عيناي في غير مجزع وما بي حذار الموت إني لميت ولكن حذاري جحم نار ملفع ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي ففي كل الظروف والأحوال عزة وثبات؛ لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فقد تعلم هؤلاء الرجال من نبيهم الذي قرأ عليهم القرآن وعلمهم كيف تكون العزة، وكيف يكون الثبات.
ولما اجتمع الأحزاب حول المدينة، وكان المسلمون قد عاهدوا اليهود على حماية النواحي الخلفية من المدينة، ذهبت قريش إلى اليهود وساوموهم، فنقضوا العهود ولا عجب، فهم نقاضوا العقود ونكاثوا العهود، أما قال الله:{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ}[البقرة:١٠٠]؟! بلى والله، حالهم لا يتغير ولا يتبدل، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بخيانة اليهود من الداخل، قال لأصحابه:(أبشروا فلقد اقترب النصر) انقطعت الحبال الأرضية، ولم يبق إلا حبل السماء، انقطعت الأسباب ولم يبق إلا الارتباط برب الأرض والسماء مسبب الأسباب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، أبشروا فلقد اقترب النصر، وأنا أقول: عباد الله! أبشروا، فلقد اقترب النصر.
يا أمة الإسلام بشرى لن يطول بك الهوان قد لاح فجرك باسماً فلتذكري ذاك الزمان أبطالنا بجهادهم ومضائهم قصموا الجبان وبنوا لمجدك سلماً بدمائهم بلغ العنان فلتهنئي يا أمتي ولى زمان الغافلين كم من سنين قد مضت والليث يهتف لن أعود لن أنثني لن أشتكي لن أرتضي ذل القعود ولسوف أمضي شامخاً رغم المشقة والقيود