[استجابة أهل بيعة العقبة لله ورسوله]
تأملوا معي في بيعة العقبة وكيف تمت تلك البيعة، فقد تمت بنودها وشروطها على أن يكون الثمن الجنة إن استجابوا لله وللرسول، وحققوا بنود تلك البيعة.
وقد تكلم العباس حين التقى مع وفد الأوس والخزرج فقال: يا معشر الأوس والخزرج! إن محمداً في منعة في قومه ولكنه أبى إلا أن يلحق بكم، فإن أردتم وظننتم أنكم ستوفون له ببيعته فأنتم وما أردتم، وإلا فدعوه فإنه في منعة من قومه، فقال أولئك الرجال الصادقون المستجيبون: انتهيت يا عم النبي صلى الله عليه وسلم؟! قال: انتهيت، فقالوا: يا رسول الله،! خذ لنفسك ولربك ما شئت وما أردت، فقرأ عليهم القرآن، ثم قرأ عليهم بنود تلك البيعة.
فهذه البيعة نحن في أمس الحاجة اليوم إلى أن نجدد بنودها، ونحن في أمس الحاجة إلى أن نستجيب لبنود تلك البيعة، فوالله إن واقعنا اليوم في أمس الحاجة إلى تجديد تلك البيعة بكل ما فيها على أن نعلم أن الثمن الجنة.
بايعوا على النصرة في العسر واليسر، وبايعوا على النفقة في المنشط والمكره، وبايعوا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبايعوا على أن يقولوا كلمة الحق لا يخافون في الله لومة لائم، وبايعوا على أن يمنعوا النبي صلى الله عليه وسلم مما يُمنع منهم إزرهم -أي: نساءهم-.
فقال أبو الهيثم بن التيهان للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تلا عليهم بنود البيعة: يا رسول الله! بيننا وبين القوم -يعني: اليهود في المدينة- عهود ومواثيق إن نحن قطعناها من أجل الله ورسوله ثم أظهرك الله أترجع إلى قومك وتتركنا؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (بل الدم الدم! والهدم الهدم! أنا منكم وأنتم مني) قالوا: يا رسول الله! إن نحن وفينا بهذه البيعة، بكل ما فيها فماذا لنا؟ قال: لكم الجنة، قالوا: مد يدك نبايعك، فقام أصغر القوم أسعد بن زرارة يبين للقوم مدى خطورة هذه البيعة التي قد أقدموا عليها، فقال: يا قوم! أتدرون على ماذا تبايعون؟ أنتم تبايعون على عداوة القاصي والداني، وسترميكم العرب من قوس واحدة، وأنتم تبايعون على ضياع الأموال، وهدر الدماء، وانتهاك الأعراض، وعلى ترميل النساء، وتيتيم الأطفال، فهذه هي حقيقة البيعة التي تبايعون عليها، فإن كنتم صادقين فعز الدنيا وعز الآخرة، وإلا فذل الدنيا وخزي الآخرة.
قالوا: انتهيت من كلامك يا أسعد! قال: نعم انتهيت، قالوا: يا رسول الله! مد يمينك نبايعك، فبايعوه على أن يكون لله وللرسول ما وعدوا ويكون لهم الثمن الجنة.
ثم انظر وانظري مدى صدق هؤلاء القوم واستجابتهم لأوامر الله وأوامر الرسول، فبعد أن بايعوا وعانقوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! إنا أهل حرب ورثناها كابراً عن كابر، وإن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بعد، لكن هذا دليل على صدق استجابتهم وبيعتهم التي صدقها الله تبارك وتعالى حين قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:١٠].
ثم المواقف تبين مدى صدق هؤلاء الرجال قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:١٨] ونظر الله إلى تلك القلوب الصادقة وإلى تلك القلوب المستجيبة رجالاً ونساءً فقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة:٨]، فرضي الله عنهم لما استجابوا لأوامره ونواهيه في الشدة والرخاء، وفي السراء والضراء.
وكم نحن بحاجة إلى صادقين مستجيبين! وكم نحن بحاجة إلى صادقات مستجيبات لأوامر الله وأوامر الرسول في زمن تكالب علينا أعداؤنا من كل مكان! فنريد أن نحيي تلك البيعة، ونريد أن نحيي ذاك الثمن العظيم، ونريد أن تشتاق الأنفس إلى ما عند الله في جنات النعيم، ثم مرت الأيام والشهور ولحق النبي صلى الله عليه وسلم بأولئك الذين بايعوا إلى المدينة.