هذا الشاب الجديد في انطلاقته في طريق الإيمان، وفي طريق البناء، يوم أن بدأ يسير على الطريق كانت من أمنياته أن يحفظ سورة الفرقان، وما أجملها من سورة لو تدبرناها! فهي تصف عباد الرحمن أولئك الذين يبنون البنيان ويحافظون عليه، يقول: من أمنياتي وأنا في بداية الطريق أن أحفظ سورة الفرقان، فاجتهدت في حفظها بعد صلاة الفجر، فيوم أن نام النائمون مكثت أنا في المسجد أحفظ هذه السورة العظيمة، يقول: فلما أتممت حفظ السورة وخرجت من المسجد فمن السعادة التي في قلبي شعرت أن هذا الكون لا يستطيع أن يتحملني، وشعرت أني أستطيع أن أوزع الإيمان على الكون كله، وأستشعر السعادة في هذا الكون كله، يقول: فالتفت يمنة ولا يسرة ما أريد أن ينظر إليَّ أحد؛ لأني كنت أشعر أني لا أسير على الأرض! ما هو هذا الشعور أليس هو الإيمان؟ أليست هي الطاعات التي جعلتهم يستشعرون الإيمان؟ أليس البنيان الذي بنوه وحافظوا عليه هو الذي كمل إيمانهم؟ فيأيها الغالي! حافظ على الطاعات من كل ما يشوبها وينقص من قيمتها.
وأما صفات عباد الرحمن فقد قال الله عنهم:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}[الفرقان:٦٣]، فلما وصف نهارهم قال أهل التفاسير: كان من باب أولى أن يصف ليلهم، {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}[الفرقان:٦٣ - ٦٨]، ثم قال في الآيات التي تليها:{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}[الفرقان:٧٢]، أي: ليس عندهم مجال لتضييع الأوقات وتضييع الأعمار، وكل باطل وزور لا يشهدونه، وكل مجالس لهو وتضييع لا يشهدونها؛ لأنهم ما خلقوا من أجل هذه {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}[الفرقان:٧٣ - ٧٤]، ما هي ثمرات حفاظهم على البنيان؟ {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا}[الفرقان:٧٦ - ٧٧].
فهذه أحوال الذين يبنون، وأما أحوال المضيعين والمفرطين الذين يهدمون البنيان فهي عكس صفات الرحمن تماماً.
وجاءتنا الأخبار أن أحد الشباب سلك طريق الاستقامة، وركب سفينة النجاة، وبدأ يحافظ على الصلاة ويحفظ القرآن، وبدأ يتذكر أصحاباً له لا يزالون غارقين في لجج المعاصي والآثام، فودّ لو أنهم ركبوا معه في سفينة التوبة والنجاة، وانضموا إلى قوافل العائدين، زارهم وليته لم يفعل، وهذه نصيحة لكل تائب جديد في طريق الاستقامة ألا يذهب لأصحاب الماضي وحيداً، فخذ معك من يعينك على دعوتهم؛ لأن الكثرة تغلب الشجاعة، فزارهم يريد لهم الهداية، فبدأ الهجوم عليه من كل الجهات: أتذكر يوم كذا وكذا، وعلت الأصوات وانطلقت الضحكات، وقام من عندهم بعد أن جددوا جراحاً ماضية، وحركوا في القلب والنفس أشياء، وبدأ الصراع من جديد.
جاءوه بعد أيام يعرضون عليه السفر إلى مكان قريب بقصد شراء سيارة قالوا له: نريد من يذكرنا بالله ويؤمنا في الصلاة، ويعلمنا الجمع والقصر، فزينت له نفسه السفر وانطلق معهم، وليته لم يفعل، هناك حيث يعصى الله استأجروا شقة مفروشة، وتركوه فيها وذهبوا وهم يخططون كيف يعيدونه إلى شواطئ الضياع مرة ثانية، فأمضوا ليلتهم في سهرة ليلية بين خمر وغناء وهو هناك ينتظرهم، واتفقوا مع بغي زانية فاجرة على أن يدفعوا لها الثمن أضعافاً مضاعفة إن هي استطاعت أن توقع صاحبهم في الفاحشة، الله أكبر! يدفعون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فأدخلوها عليه ومعها خمر وشريط غناء حتى تكون الليلة حمراء، والخمر مذهبة للعقل، والغناء بريد الزنا، فخلت به وخلا بها (وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، ولا زالت به حتى سقته كأساً من خمر، ثم ثانية، ثم ثالثة، ثم وقع المحظور وانهدم في لحظات بنيان طالما تعب حتى بناه، فنام في فراشه عارياً مخموراً -والعياذ بالله-، فلما أصبح الصباح جاء شياطين الإنس يطرقون الباب وضحكاتهم تملأ المكان، ففتحت الفاجرة لهم الباب فقالوا لها: ما عندك؟ ما الخبر؟ ما البشارة؟ قالت: أبشروا فقد فعل كل شيء: شرب الخمر، وزنى، ثم نام وهو عريان في فراشه الآن، تباً لهم ولأمثالهم أيفرحون ويستبشرون إن عُصي الله؟ أيفرحون أن صاحبهم زنى وشرب الخمر بعد أن كان يصلي ويقرأ القرآن؟! فدخلوا عليه ضاحكين شامتين وهو مغطىً في فراشه، فأيقظوه فلم يجبهم، فكرروا النداء فلم يجبهم، فحركوه وقلبوه في فراشه فلم يستيقظ، واسمع الفاجعة: إن صاحبنا شرب الخمر، وزنى، ونام، ومات من ليلته في فراشه على أسوأ ختام! إنا لله وإنا إليه راجعون! فيا ألله! أما كان صاحبهم يصلي ويصوم ويقرأ القرآن؟ أليس قد جاء معهم يريد لهم الهداية فأرادوا له الغواية؟ لقد دفعوا أموالهم وأوقاتهم ليصدوه عن سبيل الله، فهل سينقذونه من عذاب الله؟ فأي أصحاب هؤلاء؟! وصدق الله حين قال:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا}[الفرقان:٢٧ - ٢٩].
فلا تصحب أخا الفسق وإياك وإياه فكم من فاسق أردى مطيعاً حين آخاه