للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استجابة الصحابة لله ورسوله يوم بدر وأحد]

ثم بدأت المناوشات بين معسكر الكفر وبين معسكر الإيمان، وبدأ الكر والفر يمنة ويسرة، فخرجت قافلة من قريش تريد الشام، فاعترضها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ذهاباً، لكنها استطاعت أن تتجاوز ذلك الطريق، لكن تربص لها النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في طريق العودة، فعلمت قريش بالخبر، فخرجت بجندها وصناديدها وكبرائها وفرسانها بألف رجل مدججين بالسلاح، في حين خرج محمد صلى الله عليه وسلم مع نفر من أصحابه لا يتجاوزون الثلاثمائة من الرجال بلا عدة وبلا عتاد أرادوا العير فإذا بهم يلاقون النفير.

فالآن يظهر مدى الاستعداد، وتظهر مدى الاستجابة لله وللرسول، فقد بايعوا في الرخاء على أن يوفوا ويكون الثمن الجنة، والآن أصبح الموقف جللاً، والخطب عظيماً، وتغيرت الأحوال، وتبدلت الظروف، وتآمر المتآمرون، واجتمع الأعداء لاستئصال جذور الإسلام ومحاربة أهله، فماذا هم صانعون في مثل هذا الموقف العظيم؟! قال الله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال:٥ - ٨].

فلما استجابوا واستعانوا بربهم قال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:٩]، فشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فالأمر شورى بينهم، فليس هو -بأبي وأمي- مستبداً برأيه، ولا طاغوتاً من الطواغيت.

قال تعالى: {أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:٣٨]، فقال: أشيروا علي أيها الناس؟! أشيروا علي أيها الناس؟! فأبدى المهاجرون رأيهم كـ أبي بكر وعمر إلى آخر أولئك الرجال.

والمهاجرون لم يخرجوا إلا وعندهم الاستعداد للاستجابة في كل زمان، وفي كل مكان، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يكرر: أشيروا علي أيها الناس؟! لأن ثقل المعركة سيقع على كاهل الأنصار، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرف رأي أولئك الرجال الذين بايعوه عند العقبة في تلك الليلة المباركة على النصرة داخل المدينة.

فالآن هو خارج المدينة أمام جيش عرمرم، وهو في ظروف لم تكن على البال ولا في الحسبان، فشاورهم النبي صلى الله عليه وسلم، فتكلم المهاجرون وأحسنوا الكلام، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم رأي الأنصار، ثم قال: أشيروا علي أيها الناس؟! فتكلم سيد الأوس والخزرج سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن، قال: يا رسول الله! كأنك تعنينا؟ -اسمع بارك الله فيك كيف تكون الاستجابة لأوامر الله، وأوامر الرسول في الرخاء وفي الشدة، مهما تبدلت الأحوال ومهما تغيرت الظروف- يا رسول الله! لقد آمنا بك، واتبعناك وصدقناك، فخذ حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، عاد من شئت وسالم من شئت، خذ من أموالنا ما شئت، واترك ما شئت، ووالله للذي أخذته أحب إلينا مما تركت، والله لو أمرتنا أن نرمي بأنفسنا من أعالي الجبال لرميناها، ما تخلف منا رجل واحد، والله لو خضت البحر لخضناه أمامك ما تخلف منا رجل واحد! ومن تلك الكلمات العظيمة التي قالها المستجيبون لله وللرسول قالوا: (والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:٢٤]، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون)، فهكذا تكون الاستجابة لله وللرسول في الرخاء والشدة مهما تغيرت الظروف والأحوال.

(يا رسول الله! إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فتهلل وجهه صلى الله عليه وسلم وقال: إن الله وعدني إحدى الطائفتين)، قال تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:٤٢].

ففي المواقف يظهر الرجال، وفي المواقف تظهر النساء الصادقات المستجيبات لأوامر الله وأوامر الرسول، وفي مثل هذه الظروف التي نحياها اليوم نريد أن نرى مواقف الصادقين والصادقات، والمستجيبين والمستجيبات، ففي الرخاء الكل يدعي وأما في الشدة: فكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك فاشتدت الظروف والأحوال على أصحاب محمد صلوات ربي وسلامه عليه ورضي الله عنهم أجمعين، ومع هذا ما تخلف منهم رجل واحد، والأيام تبرهن على صدقهم، وعلى مدى استجابتهم، والأيام والليالي تبين على أنهم استجابوا لأوامر الله وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم.

فانتصروا في بدر، وذاقوا حلاوة الانتصار، فأراد الله أن يربيهم فأذاقهم طعم الهزيمة يوم أحد حتى يعرفوا أسباب تلك الهزيمة، فيتجنبوا تلك الأسباب التي لا بد أن يتذوقوها حتى يعرفوا مرارة الهزيمة وحلاوة الانتصار، فالذي حدث في أحد أنه انقلبت الموازين بعد أن خالفوا أوامر الله وأوامر الرسول، فلعدم استجابة واحدة لأوامر الله وأوامر الرسول انقلب الحال حتى كاد يقتل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم العظيم.

وتخيلوا عدم استجابة واحدة قلبت الموازين رأساً على عقب! فكم هي أعداد عدم الاستجابات اليوم؟! أما تداعى القوم علينا كما تتداعى الأكلة على القصعة من كل مكان ومن كل حدب وصوب؟ فقد أصبحنا اليوم عالماً مستضعفاً مستذلاً من جميع الأطراف ومن كل النواحي، ولو كان عندنا استجابة كما كانت عند أولئك الرجال والنساء لما تجرأ علينا أولئك القوم.

لكن لا بد أن ننصف ونقول: لا زال هناك مستجيبون ومستجيبات، فلا بد أن ننصف ونقول: إنه لا زال هناك مستجيبون ومستجيبات لأوامر الله وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم.

وتخيل معي في يوم أحد ذلك اليوم العظيم قتل أكثر من سبعين من كبار الصحابة، بل قتل أسد الله حمزة رضي الله عنه وأرضاه، وقتل سعد بن الربيع وأنس بن النضر، وقتل أولئك الرجال الأفذاذ، ورجعوا محملين بالهموم، نبيهم شج رأسه، وكسرت رباعيته، رجعوا وبهم غم لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، لكن الله قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران:١٦٦ - ١٦٧].

فالشاهد: أنهم رجعوا من المعركة في يوم السبت في النصف من شوال في السنة الثالثة من الهجرة بكل ما تحملوه من الهموم والغموم، وبما تحملوه من المصائب والآلام، فتخيلوا جروحاً تنزف، وأشلاءً تقطعت، وهذا فقد حبيباً! وهذا فقد قريباً! ثم الله يطالبهم في اليوم الثاني بالاستعداد للخروج مرة ثانية، فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان تراجع في كلامه وقال: على ما فعلنا بهم لكننا لم نخرج ولم نحقق ما خرجنا من أجله، فراودته نفسه بالرجوع لمهاجمة المدينة مرة ثانية.

فأذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعداد للخروج مرة ثانية، فالمعركة في يوم السبت وفي نهار الأحد أمروا بالاستعداد والخروج مرة ثانية، فكيف تكون استجابتهم مع ما تحملوه من هموم وغموم وجروح وآلام؟! وكانت الاستجابة كاملة في اليوم الثاني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يخرج معنا إلا من خرج في اليوم الأول)، فتحامل الرجال على أنفسهم وخرجوا استجابة لأوامر الله وأوامر الرسول، فسطر الله تلك الاستجابة في آيات عظيمة تقرأ حتى يرث الله الأرض ومن عليها: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٧٢ - ١٧٥].

فانظر إلى صدق الاستجابة لأوامر الله وأوامر الرسول، فمن استجاب فإنما يستجيب لنفسه، ومن نكص على عقبيه فإنما ينكص على نفسه، و {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:١٧].

ومن استجاب لأوامر الله وأوامر الرسول فهو المستفيد الأول من هذه الاستجابة، يستفيد منها في الدنيا، ويستفيد منها في الآخرة، فأما في دنياه فقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:٩٧].

وأما في الآخرة فقال تعالى: {لِلَّذِينَ أ