[العرض]
وهل تظن أن الموقف قد انتهى؟ كلا، بل ينتقل الناس من شدة إلى شدة، وينتقل الناس من أمر عظيم إلى أمر جسيم، فيأذن الله بالشفاعة، ويأذن الله بالحساب، فتصف الصفوف {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف:٤٨].
فتقام الصفوف، وتطأطأ الرءوس، وتشخص الأبصار، وتتطاير الصحف، وتوضع الموازين، وتوزن الأعمال، ويتمنى الإنسان حسنة واحدة في ذلك المقام، فالأم تقول لابنها: حملتك في بطني تسعة أشهر، وفعلت لك ما فعلت، يا بني! حسنة واحدة لمثل هذا اليوم العظيم، وكذلك يقول الأب لأبنائه، فينادي كل منهم: نفسي نفسي نفسي.
تقول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: (أيعرف الناس أهليهم في ذلك اليوم؟ قال: نعم إلا في ثلاثة مواقف، يوم تتطاير الصحف فلا يدري الإنسان أيأخذ كتابه بيمينه أم بشماله، ويوم تنصب الموازين فلا يدري أترجح كفة الحسنات أم كفة السيئات، وإذا نصب الصراط فلا يدري أيتجاوزه أم يهلك مع الهالكين).
أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ويأذن الله بالشفاعة ويأذن بالحساب، فيبدأ يوم عسير مقداره خمسون ألف سنة، {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:١ - ٤].
فلا يأكلون ولا يشربون ولا يتكلمون في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة! فكيف سيكون حالي وحالك؟! وكيف سيكون حال أولئك الذين ما قدروا الله حق قدره؟! وفي شدة الموقف والأهوال يظل الله من قّدروه حق قدره في ظل عرشه، وفي ذلك اليوم العظيم أصناف سبعة يستظلون بظل عرش الرحمن الرحيم، فأين أنت منهم؟ قال الحسن البصري: كيف أنت بأقوام وقفوا على أقدامهم مدة خمسين ألف سنة، لا يأكلون ولا يشربون ولا يتكلمون، وبينما هم على ذلك الحال وقوف إذ جيء بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها؟ {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان:١٢ - ١٣]، {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:١٢]، {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك:٨].
وقد أمرنا الله بتقواه والاستعداد لذلك اليوم العظيم، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:١ - ٢].
فتتقطع الأحساب والأنساب، ثم يأمر الله بالحساب، فكيف أنت بمحكمة قاضيها الملك الديان، وشعارها {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:١٧].
قرأ قارئ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَالَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:١ - ٧] فبكى وقال: والله إنه حساب شديد، سنحاسب فيه بالذرة! فكم نظرة نظرتها ستعرض عليك ذلك اليوم! وكم كلمة قلتها ونسيتها ستعرض عليك ذلك اليوم! وكم من أعمال عملتها ستصبح هباء منثوراً في ذلك اليوم!