للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفتية وظلام الليل]

الورقة الثانية: الفتية وظلام الليل.

إن أردت أن تكون خالصاً لله بالنهار فلابد أن تكون خالصاً له بالليل، والظلام سر من الأسرار، وفي جوف الظلام يتربى الفتية الذين آمنوا بربهم، قال الله جل في علاه: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:٦]، وقال عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:١٦].

إن الصلاة في ظلام الليل من أفضل الطاعات وأجل القربات بعد الصلوات المفروضات، ولقد كان سيد القائمين صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فإذا سئل عن ذلك قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً؟!).

وكان يربى الفتيان على القيام في ظلام الليل -لأنه لا تربية أعظم من التربية السرية بين العبد وبين ربه- فيقول: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل)، فلما أخبر عبد الله بخبر النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك قيام الليل.

روى مسلم عن أبي هريرة: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصلاة بعد المكتوبة؟ فقال: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل).

وفي حديث عذب جميل أخرجه النسائي وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً: (ثلاثة يحبهم الله عز وجل، فذكر منهم: وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به نزلوا فوضعوا رءوسهم، فقام عبدي يتملقني ويتلو آياتي) قام الذي بينه وبين الله أسرار يتملق ربه ويتلو آياته، وأي شيء أعظم من الانكسار بين يديه سبحانه في ظلام الليل؟! وفضل الصلاة في ظلام الليل معلوم، ولا يقدر عليها إلا متجرد عظيم الإخلاص، ولذلك قالوا: لا يقوم الليل منافق.

قلت لليل: هل بجوفك سرٌ عامر بالحديث والأسرار؟ قال: لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار وللفتية في نبيهم أسوة، فعن علي رضي الله عنه قال: (ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح) رواه أحمد بإسناد صحيح.

إن من دأب الصالحين قيام الليل، واللجوء إلى الله عند الشدائد والفتن، وأي شدائد أعظم مما نمر به في مثل هذه الأيام؟! يقول ابن مسعود: ما سمعنا مناشداً ينشد ضالة أشد من مناشدة محمد صلى الله عليه وسلم لربه يوم بدر، كان يقول في مناشدته لربه: (اللهم إني أنشدك ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد، اللهم لا تودع مني، اللهم لا تحذلني، اللهم لا تترني، اللهم أنشدك ما وعدتني، اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها وفخرها تجادل وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني به) يدعو ويردد ويلح على ربه في الدعاء حتى يسقط رداءه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه فقال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك لربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:٩] هذا هو الزاد عند الشدائد، {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:١٤].

لقد تعلم الفتية من نبيهم فن التضرع والبكاء في ظلام الليل، قال الذهبي: وممن كان يصلي صلاة طويلة من العشاء إلى الفجر علي بن الحسين زين العابدين، كان إذا أطل عليه الليل وأقبل عليه النهار توضأ وأتى فراشه وقال: ما أحسنك وما أدفأك، ولكن في الجنة أحسن منك وأروح منك وأدفأ منك، والله لا أنام حتى الصباح، فكان يصلي حتى الفجر، فإذا طلع الفجر رؤي على وجهه قبس من نور وشعاع من بياض.

قيل للحسن البصري: إن الذين يقومون الليل على وجوههم نور؟ قال: خلوا به في الظلام فكساهم من نوره.

ومن فتية الظلام أيضاً: الربيع بن خثيم، كان يقول: أكثروا من ذكر الموت فهو غائبكم المرتقب، وإن الغائب إذا طالت غيبته أوشكت أوبته، وترقبه ذووه، ثم استعبر وقال: ماذا نصنع غداً إذا دكت الأرض دكاً دكاً، وجاء ربك والملك صفاً صفاً، وجيء يومئذ بجهنم؟ كان الربيع لا ينام، فتصحو أمه فتجده صافاً في محرابه، كادحاً في مناجاة ربه، مستغرقاً في صلاته، فتناديه وتقول: ألا تنام يا ربيع؟! فيقول: يا أماه! كيف ينام من جن عليه الليل وهو يخشى البيات، يعني: هجوم الخصوم، لقد أرق أمه كثرة تضرعه وبكائه وشدة نحيبه في عتمات الليل والناس نيام حتى ظنت به الظنون، فصاحت تناديه: ما الذي أصابك يا بني؟! لعلك أتيت جرماً، لعلك قتلت نفساً؟ قال: نعم يا أماه! لقد قتلت نفساً، فقالت في لهفة: ومن هذا القتيل حتى نجعل الناس يسعون إلى أهله لعلهم يعفون عنك؟ والله لو علم أهل القتيل ما تعاني من البكاء، وما تكابد من السهر لرحموك، فقال: لا تكلمي أحداً يا أماه! إنما قتلت نفسي بالذنوب والمعاصي.

إنه تلميذ ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرب الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم، كان ابن مسعود يقول للربيع: ما رأيتك مرة إلا ذكرت المخبتين، وكان يقول له: يا أبا يزيد! لو رآك النبي صلى الله عليه وسلم لأحبك.