[غزية بنت حكيم العامرية]
أيتها الغالية! هل سمعت عن تلك التي قالت لقومها: إي والله إني على دينه؟! ما شأنها وما قصتها وما خبرها؟ إنها أم شريك إنها غزية بنت جابر بن حكيم القرشية العامرية التي كانت من أوائل من أسلم هي وزوجها، تحكي رضي الله عنها قصة حياتها، حياة الثبات والصبر على دينها رغم التعذيب القاسي.
تقول: جاءني أهل زوجي فقالوا لي: لعلك على دين محمد؟! قلت: إي والله إني لعلى دينه -تأملي نبرة العزة- قالوا: لا جرم! والله لنعذبنك عذاباً شديداً، ثم ارتحلوا بي على جمل هو شر ركابهم وأغلظه، يطعمونني الخبز والعسل ويمنعون عني الماء، حتى إذا انتصف النهار وحميت الشمس نزلوا فضربوا أخبيتهم وتركوني في الشمس قائمة وفعلوا بي ذلك ثلاثة أيام حتى ذهب عقلي وسمعي وبصري، ثم قالوا لي في اليوم الثالث: اتركي دين محمد وما أنت عليه! تقول: قلت في نفسي: ليتهم رجعوا إلى أنفسهم بعدما عاينوا صبري وقد ذهب عقلي وسمعي وبصري لعلهم يرجعون عن غيهم وفعلتهم هذه ويدخلون في دين الله عز وجل الذي تذوقت حلاوته.
نعم أيتها الغالية! إنها امرأة لا تملك من حطام الدنيا شيئاً لتفتدي به نفسها من ذلك العذاب الشديد، ولكنها تمتلك الإيمان الذي خالطت بشاشته القلوب فامتلأت بحب علام الغيوب نعم إن الإيمان هو المحرك الحقيقي لهذا الإنسان.
تقول غزية: وما دريت والله ما يقولون إلا الكلمة بعد الكلمة، كنت أشير بإصبعي إلى السماء -علامة على ثباتها على معرفة الله الواحد الأحد- تقول: فوالله إني لعلى ذلك وقد بلغ مني الجهد، ولكن شاء الله عز وجل أن يلطف بي بعد ذلك البلاء المبين! أما قال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:٣١]، أما قال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:١٤٢]؟ تقول: وبينا أنا على تلك الحال إذ وجدت برد دلو على صدري، فأخذته فشربت منه جرعة واحدة ثم انتزع، فنظرت -وهي التي فقدت بصرها- فنظرت فإذا هو معلق بين السماء والأرض فلم أقدر عليه، ثم تدلى ثانية فشربت منه جرعة، ثم تدلى ثالثة فشربت حتى رويت وأرقت على رأسي ووجهي وثيابي.
خرج أهل زوجي ونظروا إلي على تلك الحال وقالوا: من أين لك هذا يا عدوة الله؟! فقلت بكل عزة وثبات: إن عدو الله غيري، إنه من خالف دين الله وعصى أوامره، ثم قلت: أما هذا الذي تسألون عنه فهو من عند الله عز وجل رزق رزقنيه الله الله الذي يجيب المضطر إذا دعاه الله الذي قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:١٨٦].
قريب أسمع وأجيب، وأعطي البعيد والقريب، وأرزق العدو والحبيب.
قريب أغيث اللهفان، وأشبع الجوعان، وأسقي الظمآن، وأكافئ الإحسان.
قريب عطائي ممنوح، وخيري يغدو ويروح، وبابي مفتوح، وأنا حليم كريم صفوح.
قريب يدعوني الغريق في البحار، والضال في القفار، والمحبوس خلف الأسوار، كما دعاني عبدي في الغار.
قريب فرجي في لمحة البصر، وغوثي في لفتة النظر، المغلوب إذا دعاني انتصر.
سبحانه اطلع فستر، وعلم فغفر، وعبد فشكر، وأوذي فصبر سبحانه لا إله إلا هو.
قالت: قلت: أما هذا الذي تسألون عنه فهو من عند الله عز وجل رزق رزقنيه الله، الله الذي يجيب المضطر إذا دعاه, هنا انطلق أهل زوجي سراعاً إلى قرابهم المملوءة بالماء وإلى أوعيتهم الأخرى يستجلون الخبر فعند القرب والأوعية الخبر اليقين، وجدوها موكوءة لم تحل، فعادوا إليها وقالوا: نشهد بأن ربك هو ربنا وأن الذي رزقك في هذا الموضع بعد أن فعلنا بك ما فعلناه هو الذي شرع هذا الدين العظيم، هو الإله الحق.
ثم أسلموا وهاجروا جميعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثباتها وعزتها وموقفها الشديد، أسلم القوم وظهر لهم الحق.
إنه درس من الثبات، إنه الإيمان الذي جعل المؤمنات كالجبال الراسيات، فلا عذاب ولا تهديد يجعلهن يقدمن أي تنازلات، بل إباء وشموخ وثبات.
أما قال بلال وهو الذي ذاق أمر العذاب لما سئل: كيف تحملت كل هذا العذاب؛ قال: مزجت حلاوة الإيمان بمرارة العذاب فطغت حلاوة الإيمان.
كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلي الفؤاد الصادي