للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بين عبودية الرخاء وعبودية الشدة]

عبد الله! إن لله عبودية في الرخاء، ولله عبودية في الشدة، وينجح الكثير في تحقيق عبودية الرخاء، بينما يفشل الكثير في تحقيق عبودية الشدة، وهل الحياة إلا امتحان واختبار ليميز الخبيث من الطيب، وهل يظهر الطيب ويظهر الرجال والنساء الصادقون والصادقات إلا في مواقف الشدة والامتحان والاختبار والابتلاء؛ لذلك سنة الله ماضية في امتحان الأولين والآخرين؛ ليعلم الصادق من الكاذب.

في مرة من المرات -حتى تعلم أن الأوامر كانت شديدة على أولئك الرجال والنساء فلم يتخلف منهم رجل واحد عن الاستجابة لأوامر الله وأوامر الرسول- ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل من أولئك الرجال الصادقين المستجيبين لأوامر الله وأوامر الرسول قائلاً له: (اذهب إلى مكة وائتني برأس خالد الهذلي)، وهذا رجل من هذيل يجمع الناس من حوله حتى يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع من حوله نفر كثير، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بخبره أرسل إليه رجلاً من الرجال الصادقين المستجيبين لأوامر الله وأوامر الرسول، فقال: (يا عبد الله بن أنيس اذهب إلى مكة وائتني برأس خالد الهذلي) فلم يعص هذا الجندي ولم يخالف وإنما قال: سمعاً وطاعة، لكن عندي سؤال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما هو؟ قال: يا رسول الله! لا أعرف الرجل، فما رأيته قط، ولا سمعت به قط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً له حال ذلك الرجل قال: (علامة الرجل أنك إذا رأيته تهابه) فلم يتردد المستجيب المؤمن الصادق مع صعوبة المهمة والتكليف، إنما قال: سمعاً وطاعة.

فانظر كيف أن النبي لم يرسل كتيبة ولا أرسل جيشاً كاملاً، وإنما أرسل رجلاً واحداً؛ لأن الرجل منهم في ذلك الحين كان يعدل ألفاً، لأن الرجل من أولئك الرجال الصادقين كان يعدل ألفاً من الرجال.

وخرج عبد الله بن أنيس وحيداً حتى وصل إلى منى حيث أقام خالد الهذلي معسكره، وهناك جاء -والحرب خدعة- وقال له: أنا جئت حتى أنضم إليك وإلى أولئك الذين يريدون أن يقتلوا محمداً صلوات ربي وسلامه عليه، فقربه منهم وأدناه، وبعدها بحين إذا به يسير هو وإياه بعيداً عن الخيام وعن أعين الناس؛ فانتهز الفرصة عبد الله بن أنيس واخترط سيفه فاجتز رقبة الرجل، ورجع يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المهمة قد تمت على أكمل وجه.

والوحي كان قد سبقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن الجندي قد قام بالمهمة على أكمل وجه، فما إن رآه النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: (أفلح الوجه! خذ عصاتي توكأ عليها أعرفك بها يوم القيامة) وقليل هم المتوكئون! فلما مات عبد الله بن أنيس أمر بتلك العصا أن تدخل معه في كفنه، آية وعلامة على أنه أطاع الله وأطاع الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومهما كانت الظروف والأحوال فلا بد من الاستجابة لأوامر الله ونواهيه ليس في الرخاء فقط، ولكن في الشدة تظهر معادن الرجال وحقيقة النساء، فالعبودية لا بد أن تحقق لله في الرخاء، ولا بد أن تحقق لله في الشدة.