[كوارث ومصائب لا يتصورها العقل]
فانطلقنا فاستقبلني أفراد مكتب هيئة إحياء التراث الذين بعد أن حدث ما حدث هناك استأجروا لهم مكتباً هناك، وبدءوا بالعمل على إغاثة المنكوبين والمحتاجين، قال صاحبي: لا مجال للذهاب إلى المقر سنبدأ الجولة من الآن، والمطار يبعد عن عاصمتهم المنكوبة خمسة وعشرين كيلو، وبعد أن تجاوزنا المطار بخمسة كيلو مترات بدأت أرى آثار الدمار، وعلى بعد عشرين كيلو عن أمواج البحر ليس الدمار كبيراً، لكن كلما اقتربنا نرى العجب العجاب، وأنا أتلفت يمنة ويسرة والله ما أرى إلا دماراً فأقول: أمن المعقول أن الدمار بلغ إلى هنا؟! قال: سترى العجب العجاب، اصبر فقط.
وقد قمت بتصوير المشاهد التي رأيت حتى لا يقال: إن الكلام الذي تقوله ليس حقيقة، فقد سجلت وصورت كل ما رأيته، وكتبت الرحلة من أولها إلى آخرها بكل أحزانها وبكل آلامها، وقد تخللتها ابتسامات لكن الأحزان والدموع أكبر مما تتصور، فسجلت هذا وسجلت ذاك، ثم صورت الأحداث كما رأيتها وسأحرص إن شاء الله على أن أخرج ما كتبت في كتيب صغير، وأخرج ما صورت في شريط فيديو؛ حتى يرى الناس حقيقة ما حدث هناك.
فاقتربنا من قرية تبعد عن شاطئ البحر ثمانية كيلو مترات قلت: سبحان الله! ما هذا؟! قال لي: سترى أعظم، قلت: أعظم من هذا؟ قال: والله! ما رأيت شيئاً إلى الآن لقد رأيت يا إخوان بيوتاً مدمرة، وأشجاراً تراكمت وتقطعت من أصولها، وسيارات تراكمت بعضها على بعض، وقد اختلط الحابل بالنابل، ورأيت سيارات مع الأشجار ومع أثاث البيوت ومع كل شيء، وتحتها جثث من البشر لا يعلم عددهم، إن التفت يمنة أرى عشرات الجثث قد مددت، وإن التفت يسرة أرى مثلها، حيثما التفت أرى آثار الموت، والروائح الكريهة تشم من كل مكان، قلت: يا ألله! ما الذي حدث؟ قالوا لي: الأمر أعظم، إلى الآن لم ترَ شيئاً، أنت الآن في منطقة تبعد عن شاطئ البحر بثمانية كيلو مترات، لقد حدث في هذه المنطقة أن المياه تدفقت الساعة السابعة والنصف أو الثامنة صباحاً والناس نيام {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:٩٧]، فاقتحمت عليهم المياه بيوتهم في الثامنة صباحاً وهم نيام، فلم يستطع أحد أن يخرج من مكانه، لقد كسرت المياه الأبواب، واقتحمت النوافذ، وبلغت المياه داخل البيوت إلى مترين وثلاثة أمتار، فغرق من غرق، ومن سلم من الغرق فقد كسرته تلك الأشجار، وتلك السيارات، وذلك الأثاث المدمر، لقد كسرت عظامهم، وكسرت جماجمهم، ثم تراكمت عليهم تلك الأشجار والسيارات والبيوت التي تهدمت، من أين أتت تلك السيارات؟ لقد أتت من شاطئ البحر! قذف البحر بكل ما كان على شاطئ البحر على بعد ثمانية أو عشرة كيلو مترات، قذفت تلك الأمواج مع قوتها وشدتها كل ما كان على شاطئ البحر على بعد ثمانية أو عشرة كيلو مترات.
ثم وقفت حائراً وأنا أرى منظراً عجيباً، قلت: ما هذا؟! قال: هذه سفينة! أنا لا أتكلم عن سفينة خشبية أو مركب صيد، أنا أتكلم عن ناقلة كبيرة طولها ستون متراً ووزنها خمسمائة وستون طناً، قلت: ما الذي أتى بها إلى هنا؟ قال: قذفتها الأمواج حتى أوصلتها إلى هنا! السفينة تحمل مولدات من الكهرباء كانت على شواطئ البحر فقذفتها الأمواج كالريشة، قلت: هل هذا معقول؟! قال: معقول والأمر أدهى وأعظم! وقد قال لي من عرف أني سأذهب إلى هناك وقد ذهب قبلي: قال: سترى قيامة مصغرة، أليس يوم القيامة تبدل الأرض غير الأرض؟ لقد انقلبت الأرض رأساً على عقب، فلاهي بالبيوت التي يعرفونها، ولا بالأشجار التي كانوا يرونها، ولا بالبحار التي كانت هادئة، لقد تغير كل شيء! ووجدت أناساً عند بيوت محطمة فقلت لهم: ماذا تفعلون؟ قالوا: أهلنا في الداخل نريد إخراجهم، وقد مضى على موتهم أكثر من ثمانية عشر يوماً، إنهم يجتهدون ويأتون من أماكن بعيدة لاستخراج أقاربهم من بيوتهم المدمرة، فوقفت مع أناس، قال أحدهم: هنا أخي وزوجته وأطفاله الأربعة، وكثير منهم يجتهدون في إخراج أهلهم حتى يدفنونهم فرادى، لكن حين يخرجونهم ويرون مقدار التشوه ومقدار العفن الذي أصابهم يوافقون على دفنهم في المقابر الجماعية على أطراف القرى، فيحفرون لهم حفراً كبيرة، ومعدل من يدفن فيها كل يوم أكثر من سبعمائة، كيف يدفنونهم؟ إنهم يحملونهم ثم ترمي الدركترات بعضهم على بعض، فلا يستطيع أحد أن يتولى دفنهم؛ لشدة العفن والتلف الذي أصيبت به تلك الجثث.
ووقفت مع أحدهم فقال: أنا عمدة هذه البلدة، كنت مستيقظاً قبيل أن يحدث ما حدث، يقول: فشعرت بهزات أرضية، وكان أجدادنا يقولون: إذا شعرتم بالزلزال وأنتم قريبون من البحر ففروا إلى الجبال، يقول: فخرجت أصيح في الشوارع وفي طرقات القرية: الهرب الهرب الهرب الهرب، ففر معي أكثر من ألفين، وآلاف قضوا نحبهم تحت الأمواج، وتحت الركام، فأنقذت أهلي وفررت ومعي ألفان ممن فروا معي.
فصعدنا على ظهر السفينة والتفت يمنة ويسرة فقلت: أحقيقة ما أشاهد؟ هل معقول أن هذا كله حدث؟ قال لي: أنت لا زلت إلى الآن بعيد عن مركز الحدث، إنك إلى الآن لم تر شيئاً! قلت: لا إله إلا الله! لم أر شيئاً؟! كل هذا الدمار وتقول لي: لم تر شيئاً؟! قال: إي نعم، إلى الآن لم ترَ شيئاً، فالأمر أعظم مما تتصور! فانتهينا من جولتنا في هذه القرية بعد أن رأينا عشرات الجثث تنقل من هنا ومن هناك، ثم انطلقنا إلى مكان أقرب يقع على شاطئ البحر، ووقفت على شاطئ البحر فلم أرَ شيئاً يا إخوان! أرض استوت تماماً لا ترى فيها شيئاً، {قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:١٠٦ - ١٠٧]، أين البيوت؟! لقد زالت عن بكرة أبيها، أين القرى؟! أين البشر؟! ذهبوا كلهم.
هل تظن أن بيوتهم خشبية؟ لا والله! بل هي عمارات ومبان شاهقة من الحديد والإسمنت، وقد زالت عن بكرة أبيها، والله! لا ترى إلا قواعد البيوت على مد البصر! قلت: لا إله إلا الله! أي قوة لهذه الأمواج حتى اقتلعت هذه البيوت من أصلها واقتلعتها من مكانها؟! سبحان الله! حجار وطين وحديد وكل ما تستطيع أن تتصوره زال عن بكرة أبيه، أين ذهب؟ لقد ساقته الأمواج إلى القرى التي تبعد عشرات الكيلو مترات عن تلك القرى، ففي جانب البحر لا ترى إلا أرضاً قد غسلتها الأمواج تماماً.
ترى القواعد الأرضية، وبلاط البيوت في كل مكان قد تساقط، أما أثاثهم وسيارتهم وممتلكاتهم فاقتلعتها الأمواج عن بكرة أبيها، ورمت بها على بعد عشرات الأمتار والكيلو مترات إلى القرى التي تليها.
وقفت أمام البحر وقد كان هادئاً أهدأ ما يكون فقلت: هل يعقل أن الأمواج خرجت من هنا؟! قال لي: الأمر أعظم، سأريك أعظم مما رأيت! فانطلقنا إلى مكان آخر على شاطئ البحر من جهة مقابلة، وحتى تدرك عظم الشواطئ التي أصيبت بالدمار فإن طولها أكثر من مائتين وخمسين كيلو، ودخلت المياه إلى اليابسة إلى بعد عشرة كيلو مترات، بطول الساحل مائتا وخمسون كيلو دخلت المياه إلى اليابسة إلى بعد عشرة كيلو مترات! فما هي القوة التي مع هذه الأمواج؟ إنك لا تستطيع أن تتصورها.
فذهبنا إلى قرية أخرى على شاطئ البحر فما رأيت إلا دماراً، وقفت في قرى تبعد عن شاطئ البحر بكيلو مترات فرأيت فيها من الدمار ما الله بها عليم، ثم أخذت أقترب شيئاً فشيئاً من شاطئ البحر، حتى وقفت على تلك الأمواج الزرقاء، فقلت والبحر في أهدأ حالاته: أيعقل أن تلك الأمواج خرجت من هنا؟ نعم لقد خرجت من هنا، لكن لماذا خرجت؟ وكيف خرجت؟ انتقلنا من ذلك الموقع إلى موقع آخر على شاطئ البحر، إن الشواطئ من أجمل ما ترى العين، وصاحب القلب الحي يقف هناك ويقول: ما أعظم الله! فإنه يرى جمال وبديع خلق الله تبارك وتعالى، وبدلاً من أن يذهب الناس إلى هناك للتفكر، ذهبوا لمحاربة الجبار بالمعاصي والمنكرات في أرضه وتحت سمائه.
فأخذوني إلى قرية أخرى، فوقفت على شاطئها فرأيت مثل الذي رأيت هناك، إلا أنه اختلف شيء واحد وهو أن الأرض قد استوت تماماً من أولها إلى آخرها، لقد زالت المباني التي من الحديد والإسمنت عن بكرة أبيها إلا بيتاً وجدته ملقاً على جانب القرية، قلت: هذا البيت قد نجا، قال: لا هذا ليس بالدور الأول هذا الدور الثاني للبيت الذي تدمر تماماً، هذا يبعد عن شاطئ البحر حوالي مائتين أو ثلاثمائة متر، سبحان الله! ومع قوة الأمواج وشدتها اقتلعت الدور الأول بكل ما فيه، ثم طفا الدور الثاني وقذفت به الأمواج بعيداً عن الدور الأول بحوالي ستين أو سبعين متراً! ما هي القوة التي مع هذه الأمواج حتى تحمل مثل هذا؟! حملت السفينة ووزنها خمسمائة وستون طناً وقذفت بها إلى مسافة ثمانية كيلو مترات، فكيف ستصنع بما كان على شاطئ البحر؟! التفت إلى جهة أخرى فإذا ببنيان فيه مآذن وقبة بيضاء فقلت: ما هذا؟ قال: هذا مسجد القرية نجا من الدمار! قلت: لا إله إلا الله! فانطلقت إلى هناك، واقتربت من المسجد وفي قلبي رهبة، التفت يمنة ويسرة فلم أر شيئاً قائماً أبداً، فالبيوت التي لها قواعد حديدية وإسمنتية قد تدمرت، وبعضهم ممن رأى المسجد ورأى ما حوله قال: كانت البيوت خشبية فما قاومت الأمواج والتيارات، لا والله! بنيان المنازل كان أقوى من بنيان المسجد، والمسجد عمره عشرات السنين، وبعض المباني كانت حديثة، فهذا البيت الذي ذكرت لكم انتهى من بنيانه منذ ثلاثة أشهر فقط، وهو لا يزال في أقوى قوته، وفي أقوى قواعده، ومع هذا فقد زال تماماً، دخلت المسجد، فإذا به لم يصب إلا بضرر قليل، ويحتاج إلى ترميمات قليلة ليعود كما كان، هل تظن أنه المسجد الوحيد الذي هو بهذه الحال؟ لقد رأيت عشرات المساجد مثله! ركبت سفينة في رحلة بحرية لمدة ست ساعات فرأينا قرى مدمرة عن بكرة أبيها لم ينجُ منها أحد، ورأيت المساجد في وسط تلك القرى، كل شيء تدمر إلا المساجد! سألت أكثر من نجا: كيف نجوتم؟ قالوا: لجأنا إلى المساجد، وهكذا فإن الناس في الشدة يلجئون إلى الله.