أوصى على منبره في آخر أيامه بعده وصايا، منها:(أوصيكم بالأنصار، فهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم).
ثم حذر الأمة من اليهود والنصارى فقال:(ألا لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فلا تتخذوا قبري وثناً يعبد من دون الله).
ثم أمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا يختلط على الناس دينهم.
ثم أوصى الأمة بالصلاة، فهي صلتها بربها وقرة عينها فقال من منبره:(الصلاةَ وما ملكت أيمانكم، الصلاةَ وما ملكت أيمانكم) فكيف هي صلاتنا اليوم؟ وهل عملنا بالوصية أم ضيعناها؟ ثم نزل عن المنبر ولم يصعد عليه مرة أخرى.
بكتك المنابر كلها بأبي أنت وأمي! رد الحقوق ورد المظالم وبدأ يستعد للقاء ربه، فدنت ساعة الرحيل، واشتد عليه الوجع، وزاد عليه الألم مضاعفة للأجر ورفعة للدرجات، وفي فجر يوم الإثنين الذي قبض فيه وبينما المسلمون يصلون صلاة الفجر إذ انكشف الستار الذي على بيت عائشة، ورأى الصحابة حبيبهم، رأوه متبسماً وجهه كأنه قطعة قمر، كيف لا يتبسم وصفوف المسلمين متراصة متكاملة في صلاة الفجر؟! قلت: آه! ثم آه! ثم آه! كيف لو رأى النبي صفوفنا في صلاة الفجر اليوم، نظر إلى أصحابه نظرة وداع أخيرة وما كشف ذلك الستار بعد ذلك اليوم، كاد الصحابة يفتنون في صلاتهم، ظنوا أن حبيبهم قد برأ من المرض وهو على وشك الخروج للصلاة معهم، فأشار إليهم متبسماً أن أكملوا صلاتكم، وأسدل الستار، وكانت آخر نظرة وآخر ابتسامة، وطفق الألم والوجع يزداد عليه صلوات ربي وسلامه عليه، وبدأ يتغشاه من الألم والكرب ما الله به عليم، ودخلت عليه فاطمة رضي الله عنها، فلما رأت ما حل بأبيها من الشدة صاحت وقالت: واكرب أبتاه! واكرب أبتاه! واكرب أبتاه! فقال لها: (لا كرب على أبيك بعد اليوم، فسارها فبكت، ثم سارها فضحكت، فسألتها عائشة عن ذلك فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنها أخبرت بذلك بعد وفاته، سارها في الأولى فقال لها: إنه يقبض في مرضه هذا؛ فبكت، ثم سارها الثانية فقال: وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي ففرحت) ففرحت رضي الله عنها وأرضاها، ستلحق بأبيها في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فكيف لا تفرح وقد بشرها بأنها سيدة نساء العالمين؟! ثم دعا بـ الحسن والحسين فقبلهما وذكرهما ووعظهما، ثم دعا أزواجه فوعظهن وذكرهن، ثم دنت لحظات الاحتضار، وأخذ الوجع يشتد ويزيد، كان يقول لـ عائشة:(لم أزل أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر).
قلت: قاتل الله اليهود، فلقد سمموا نبينا، ومسلسل غدرهم ومكرهم لم ينته إلى اليوم، ثم أسندته عائشة إلى صدرها، وكانت تقول: من أعظم نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وقد جمع الله بين ريقي وريقه عند موته.