للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إقدام الجيش الإسلامي على أكبر مغامرة حربية عرفها التاريخ]

تأمل -رعاك الله- عدد وعدة الجيش الكافر فمعهم خمسون ألف فارس، يتبعهم مائة وخمسون ألف مقاتل من المشاة، يتسربلون بأحسن الدروع، ويلبسون أحسن الخوذات، فمن أجل ذلك ومراعاة لكل الاعتبارات انحاز زيد رضي الله عنه بجيشه الصغير إلى قرية يقال لها: مؤتة، وعسكر فيها ليجنب جيشه الصغير خطر التطويق والإبادة، فتحصن المسلمون في قرية مؤتة، وقام زيد بتعبئة الجيش وتقسيمه.

وأخذت جيوش الرومان والعرب المتنصرة تتدفق على مؤتة في زهو وخيلاء وغرور كأنها أمواج بحر متلاطم، وجيش المسلمين الصغير المرابط في مؤتة كأنه جزيرة صغيرة مهددة بالغرق، وكانت الحالة بالنسبة للمسلمين حالة مخيفة مفزعة تثير الخوف والرعب، وتزيغ منها العقول والأبصار.

ومن أبو هريرة رضي الله عنه ممن حضر معركة مؤتة، فعبر عن هذه الحقيقة المفزعة وهذا الموقف الحرج بقوله: فرأى المسلمون المشركين ومعهم ما لا قبل لهم به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، وقد شهدت ذلك فبرق بصري، وخشع سمعي، فقال ثابت بن أرقم: يا أبا هريرة! مالك كأنك ترى جموعاً كثيرة؟ قلت: نعم، ما رأيت مثل هذه الجموع من قبل، قال ثابت: لم تشهدنا يوم بدر، إننا لم ننصر من كثرة.

ولا لوم على أبي هريرة لأنه بشر، ولقد كان على كل جندي مسلم أن يقاتل في مؤتة سبعين من جنود الجيش الروماني، فما بالكم برجل مقابل سبعين؟ أسألك بالله العظيم! أما كان بوسعهم الرجوع دونما قتال بعدما علموا بجموع الرومان؟ نعم، لكن طلاب الجنان لا يتراجعون فإما نصر وإما شهادة، لقد أقدم الجيش الإسلامي الصغير في مؤتة على أكبر مغامرة حربية عرفها التاريخ دونما جدال.

ففي القوانين والأعراف العسكرية بين الأمم الأخرى يعتبر ما أقدم عليه قادة جيش المسلمين في ذلك اليوم ضرباً من الانتحار، وتعاقب عليه القوانين العسكرية، أما عند طلاب الجنان فالحال يختلف، فالموت في سبيل الله غاية ما يتمنى المسلم الصادق، فقد اشترى الله منهم الأنفس والأموال، وقد باعوها على أن يكون الثمن الجنة، فبهذه الروح ومن هذا المنطلق ثبت المسلمون بجيشهم الصغير، إنها مغامرة عظيمة لم يشهد التاريخ مثلها! لقد كانت نتيجة المعركة مضمونة للرومان، وهي: النصر الساحق بإبادة الجيش المسلم إبادة كاملة، وذلك حسب المقاييس والمفاهيم العسكرية العادية، لكن الإيمان صنع عجباً عجاباً! فتدفقت كتائب الرومان بحديدها وفرسانها كأمواج البحر الهادر، فصمد أمامها المسلمون وعددهم لا يتجاوز الثلاثة آلاف، وأكثرهم بلا دروع!