[موقف خالد بن الوليد بعد استشهاد القادة الثلاثة]
لقد عانى الرومان الأهوال من المسلمين، وصنع بهم المسلمون مقتلة عظيمة رغم قلة العدد والعتاد، وكان من قتلى الرومان القائد العام لقوات العرب المتنصرة، واسمه مالك بن واثلة، فقد قتله قائد ميمنة المسلمين قطبة بن قتادة العذري رضي الله عنه وأرضاه.
وظل المسلمون ثابتين يصارعون ويقاومون ويكرون ويفرون، ويسطرون أعظم الصور في التضحية والثبات، غير أن مصرع القادة الثلاثة، وبقاء الجيش دونما قائد رجح كفة الرومان، وحدث خلل واضطراب في صفوف المسلمين، وأخذ بعضهم ينهزم لاسيما بعد سقوط لواء الجيش أرضاً، وبدأت تظهر عليهم علامات الهزيمة، لكن ثابت بن أقرم أحد فرسان الأنصار أنقذ الموقف ورفع اللواء وصاح: يا معشر المسلمين! اصطلحوا على رجل منكم يحمل اللواء ويقود الجيش فرشحوه فاعتذر وقال: ما أنا بفاعل، وبلغ الموقف خطورة لا تحتمل لفقدهم قائد الجيش، وبدأت علامات الخوف والاضطراب والهزيمة تظهر.
ولم يكن هناك من تتجه الأنظار إليه لإنقاذ الموقف سوى المحارب الشهير والقائد المظفر: خالد بن الوليد الذي لم يمض على إسلامه ودخوله في الإسلام إلا ثلاثة أشهر فقط، حمل خالد راية التوحيد فصاح ثابت بن الأقرم: يا خالد بن الوليد! خذ اللواء، خذ اللواء يا أبا سليمان! فقال خالد: لا آخذه أنت أحق به؛ لأنك أقدم إسلاماً وأكبر سناً -والرجال تعرف قدر الرجال- فقال ثابت: خذه يا أبا سليمان! والله ما أخذته إلا لك، فأنت أعلم مني بفنون القتال، فنادى ثابت بن الأقرم في كبار الجيش: أترضون بـ خالد بن الوليد أميراً عليكم؟ قالوا: رضينا، فتولى خالد القيادة لإنقاذ الموقف المتدهور الذي كان سيؤدي إلى إبادة الجيش لولا تدارك الأمر.
حمل خالد الراية وأصبح قائداً عاماً للجيش، فهذه الأحداث تدور في أرض المعركة فكيف كانت المدينة؟ وكيف كان حال الرجال والنساء هناك؟ ذكر المؤرخون وأصحاب السير والحديث أن الله تعالى كشف لرسوله المسافة الفاصلة بين المدينة ومكان المعركة، وأصبحت المعركة تنقل حيةً على الهواء إلى المدينة وحياً، حتى صار النبي صلى الله عليه وسلم ينظر عياناً إلى ما يحدث هناك من قتال ضار عنيف! روى البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس قبل أن يأتيهم الخبر (أخذ الراية زيد ثم قتل، ثم أخذها جعفر ثم قتل، ثم أخذها ابن رواحة ثم قتل، وعيناه تذرفان صلوات ربي وسلامه عليه، ثم سكت، ثم قال: ولقد رفعوا إلى الجنة، ثم قال: ثم حمل الراية سيف من سيوف الله، ولقد حمي الوطيس حتى فتح الله عليهم).
اجتمعت المدينة حول نبيها تتابع أخبار المعركة حية على الهواء وحياً من السماء، واليوم اجتمع المسلمون حول الشاشات والقنوات لمتابعة مباريات ومسلسلات حية على الهواء، فسبحان الله ما أعظم الفرق بين الأمس وبين اليوم! لقد كان اختيار خالد بن الوليد قائداً للجيش في تلك الساعات الحرجة اختياراً موفقاً، فهو فارس شجاع وبطلٌ مغوار، وداهية في القيادة العسكرية هجوماً ودفاعاً، ولقد أثبت في ذلك اليوم أنه من أعظم قادة المعارك الذين عرفهم التاريخ، قاد أول معركة بعد إسلامه بثلاثة أشهر، فأعاد للجيش تنظيمه الذي فقده بعد مقتل القادة الثلاثة، ثم أعاد للجيش ثقته بنفسه، بعد أن شن به هجوماً معاكساً على الرومان، زلزل به صفوفهم، ثم بمهارة فائقة تمكن بالانسحاب بالجيش الصغير انسحاباً عظيماً يعتبر في قاموس الخبراء العسكريين أعظم انتصار؛ ولهذا لقبه النبي صلى الله عليه وسلم بسيف الله المسلول، بعد أن نجح في إنقاذ ذلك الجيش الصغير، بل حقق الانتصار الذي خرج من أجله.
كانت مهمة خالد صعبة لكن الصعاب لا تقف أمام الرجال، وكلمة مستحيل لا توجد إلا في قاموس العاجزين، والفشل أبسط الأشياء التي يستطيع أن يدفعها أي إنسان دونما مجهود.
مهمة خالد كانت من أصعب المهمات، لكن أبا سليمان رجل المواقف، ولقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم تحول ميزان المعركة لصالح المسلمين بعد أن رفع خالد الراية، قال صلى الله عليه وسلم: (ولقد حمل الراية سيف من سيوف الله، ولقد حمي الوطيس ولقد فتح الله عليهم).
حمى الوطيس، وبدأت تتطاير الرءوس، وتتقطع الأعضاء والأجزاء، والدماء في كل بقعة تسيل كالأنهار، روى البخاري عن خالد نفسه أنه قال: اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية.
إن للطاقة البشرية حدود، قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]، فلقد رأى خالد بخبرته وحنكته أن جيشه الصغير قد أبلى بلاء حسناً، وكبد العدو الخسائر في الأموال والأرواح، ولقنهم درساً لن ينسوه، وعلم أن بالمدينة رجالاً يدافعون عن أعراض المسلمين والمسلمات ويدافعون عن المقدسات، فكان لابد من خطة لإخراج الجيش من أرض المعركة بأقل الخسائر.
قام خالد أثناء الليل باجتماع مع قادة الجيش بتبديل كلي للميمنة والميسرة والخلف، فبدل مواقع الرجال، وهدفه من ذلك أن يجعل الرومان يعتقدون أن جيشاً جديداً يشارك في القتال، فرسم هذه الخطة للإيهام والتضليل، والحرب خدعة، فما كاد يطلع الصباح حتى وجد الرومان أنفسهم أمام جيش جديد، ما كانوا يعرفونه طوال ستة أيام من القتال، فظنوا أن مدداً قد جاء للمسلمين أثناء القتال، فألقى الله في قلوبهم الرعب، وبينما هم في دهشتهم إذا بغبار يسد الأفق من خلف ظهر الجيش المسلم، وما هي إلا لحظات وجيزة حتى دوت وارتفعت في أرض مؤتة أصوات التهليل والتكبير، ثم انشق الغبار عن كتائب من الفرسان تتبع إحداهما الأخرى في تنسيق وإحكام راكضة نحو المسلمين، وحوافر خيلها وأصوات فرسانها تصم الآذان: الله أكبر الله أكبر، ولإدخال مزيد من الرعب في قلوب الرومان اهتز معسكر المسلمين المواجه للرومان في أرض المعركة بالتهليل والتكبير، فأي قوة تقف أمام الله أكبر؟! وأي قوة تستطيع الصمود أمام الله أكبر؟! إذا خرج التكبير من القلوب اهتزت وتغيرت الموازين.
قام خالد بكل ذلك بإحكام وتدبير، فأيقن الرومان أن ما رأوه من تغيير شامل في الميمنة والميسرة والخلف وتدفق لتلك الكتائب التي أقبلت من خلف الجيش إنما هو مدد كبير جاء من المدينة لمساندة الجيش المسلم؛ ليستمروا في خوض المعركة حتى النصر، فدب الرعب في نفوسهم، وساد الهرج والمرج، ولسان حالهم: إذا كان ثلاثة آلاف قد فعلوا بنا الأفاعيل فماذا عسى أن يفعلوا بنا بعد أن وصل إليهم المدد؟ وعلى مدى ستة أيام أو سبعة لم نستطع أن نحقق عليهم أي انتصار، فماذا عساهم أن يفعلوا بنا بعد هذا؟! فألقى الله في قلوبهم الرعب، وأدرك خالد بحاسة القائد الماهر المحنك ما أصاب الرومان وحلفاءهم من خوف ورعب نتيجة الخطة البارعة فاغتنمها فرصة، وبدأ بالهجوم الكاسح، والمسلمون يرددون: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال:١٥]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:٤٥ - ٤٦]، {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:٤ - ٧].
فمالت صفوف المسلمين على خطوط الرومان الأمامية، فتملكهم الرعب واضطربت صفوفهم، فركبهم المسلمون وأحدثوا فيهم مقتلة عظيمة كانت كما وصفها المؤرخون مذبحة بكل المعايير.
قال ابن سعد في الطبقات وهو يروي قصة انتصار خالد والمسلمين على الرومان بعد توليه القيادة: ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة وطعن حتى قتل، ثم انهزم المسلمون أسوأ هزيمة، ثم حمل الراية خالد ثم حمل على القوم فهزمهم الله أسوأ هزيمة، ووضع المسلمون أسيافهم حيث شاءوا، واستمر خالد وجيشه يطاردون الرومان حتى أثخنوهم ولقنوهم درساً لن ينسوه، حتى يعلم أولئك المعتدون أن بالمدينة رجالاً يدافعون عن أعراض المسلمين والمسلمات، ثم اغتنم خالد فرصة ارتباك الجيوش الرومانية واضطرابها، فأصدر أوامره إلى قادة الجيوش والكتائب في جيشه بالارتداد بالجيش جنوباً كما هو متفق عليه حينما وضعوا خطة الانسحاب ليلاً، وأخذ الجيش يغادر ميدان المعركة بكل هدوء وانضباط، وأشرف خالد على عملية الانسحاب، فكان يجول بفرسه بين الكتائب ليظل النظام سائداً أثناء الانسحاب، ولتظل روح الجند والقادة ومعنوياتهم عالية فلا يدركهم خوف ولا اضطراب، فتمت عملية الانسحاب كما أراد القائد خالد على أدق نظام ودونما أية خسارة، وأصبح الجيش الروماني شبه مشلول يسوده الذهول لما لقيه على أ