للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[محاربة من يتوب منهم]

ذكرنا بعض أحوالهم، فتعال نسمع بعض أخبارهم: من أخبارهم المتواترة أنه إذا تاب صاحب لهم وركب سفينة النجاة بدءوا بالحرب الإعلامية عليه، يلاحقونه بنبالهم وسهامهم، ويعددون أخطاءه وزلاته، فقائل منهم يقول: لن يصبر وسيعود إلى حالته السابقة، وآخر يقول: أيام وأسابيع وسيرجع إلى سابق عهده، وآخر يقدم له النصيحة فيقول: مالك وهذا الطريق فأنت على خير؟! سبحان الله! لا يصلي ولا يصوم ولا يقيم حدود الله ويغرق في بحار المعاصي ويقول له: أنت على خير، أي خير هذا؟! قال الله جل في علاه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:٣٦ - ٤٤].

هكذا حال الغارقين، لا يريدون أن يغرقوا بمفردهم، ولو حاولت إنقاذهم أغرقوك معهم، وكما قيل: ودت الزانية لو زنت جميع النساء حتى يصبحن سواء، عجباً لهم! بدل أن يفرحوا لهداية صاحبهم واستقامته يخططون كيف يردونه إلى شواطئ العصيان! جاءتنا الأخبار أنَّ أحد الشباب سلك طريق الاستقامة وركب سفينة النجاة، وبدأ يحافظ على الصلاة ويحفظ القرآن، بدأ يتذكر أصحاباً له لا زالوا يغرقون في لجج المعاصي والآثام، ودَّ لو أنهم ركبوا معه في سفينة التوبة والنجاة، وانضموا إلى قوافل العائدين، زارهم وليته لم يفعل! وهذه نصيحة لكل تائب وجديد في طريق الاستقامة، لا تذهب لأصحاب الماضي وحيداً، خذ معك من يعينك على دعوتهم؛ لأنَّ الكثرة تغلب الشجاعة.

زارهم يريد لهم الهداية؛ فبدأ الهجوم عليه من كل الجهات، أتذكر يوم كذا وكذا، وعلت الأصوات، وانطلقت الضحكات، وقام من عندهم بعد أن جددوا جراحاً ماضية، وحركوا في القلب والنفس أشياء، وبدأ الصراع من جديد، جاءوه بعد أيام يعرضون عليه السفر إلى مكان قريب بقصد شراء سيارة، قالوا له: نريد من يذكرنا بالله ويؤمنا في الصلاة ويعلمنا الجمع والقصر، فزينت له نفسه السفر وانطلق معهم، وليته لم يفعل! هناك حيث يُعصى الله استأجروا شقة مفروشة وتركوه فيها، وذهبوا وهم يخططون كيف يعيدونه إلى شواطئ الضياع مرة ثانية، أمضوا ليلتهم في سهرة ليلية بين خمر وغناء، وهو هناك ينتظرهم، اتفقوا مع بغي زانية فاجرة على أن يدفعوا لها الثمن أضعافاً مضاعفة إن هي استطاعت أن توقع صاحبهم في الفاحشة.

الله أكبر! يدفعون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، أدخلوها عليه، ومعها خمر وشريط غناء، حتى تكون الليلة حمراء، والخمر مذهب للعقل، والغناء بريد الزنا، خلت به وخلا بها (وما خلا رجل بامرأة إلاَّ كان الشيطان ثالثهما) ولا زالت به حتى سقته كأساً من خمر، ثم ثانية ثم ثالثة ثم وقع المحظور، وانهدم في لحظات بنيان لطالما تعب حتى بناه، نام في فراشه عارياً مخموراً والعياذ بالله! فلما أصبح الصباح جاء شياطين الإنس يطرقون الباب وضحكاتهم تملأ المكان، فتحت الفاجرة لهم الباب، فقالوا لها: هاتِ ما عندك، ما الخبر؟ ما البشارة؟ قالت: أبشروا أبشروا فقد فعل كل شيء، شرب الخمر وزنا ثم نام وهو عريان في فراشه الآن! تباً لهم ولأمثالهم أيفرحون ويستبشرون أن عُصي الله؟! يفرحون أنَّ صاحبهم زنا وشرب الخمر، بعد أن كان يصلي ويقرأ القرآن؟! دخلوا عليه ضاحكين شامتين وهو مغطىً في فراشه، أيقظوه، فلان فلان فلم يجبهم، فكرروا النداء فلان فلان فلم يجبهم، حركوه وقلَّبوه في فراشه فلم يستيقظ.

اسمع الفاجعة، صاحبنا شرب الخمر وزنا ونام، ومات من ليلته في فراشه على أسوأ ختام، إنا لله وإنا إليه راجعون! يالله! أما كان صاحبهم يصلي ويصوم ويقرأ القرآن؟! أليس قد جاء معهم يريد لهم الهداية فأرادوا له الغواية؟! لقد دفعوا أموالهم وأوقاتهم ليصدوه عن سبيل الله، فهل سينقذونه من عذاب الله، أي أصحاب هؤلاء؟! وصدق الله حين قال: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:٢٧ - ٢٩].

فلا تصحب أخا الفسق وإياك وإياه فكم فاسق أردى مطيعاً حين آخاه هكذا حال الغارقين، تريد إنقاذهم فإذا هم يخططون لإغراقك معهم؛ لأنهم يغرقون، قال جل في علاه: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:٥٤ - ٥٦]، وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:٢٠٥ - ٢٠٧]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه) رواه ابن ماجة وحسنه الألباني رحمه الله.

ماذا صنعت بهم الذنوب؟! قال سبحانه: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:١١]، وقال: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:١٣٨] وقال عز من قائل: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [غافر:٢١ - ٢٢].

اسمع ماذا صنعت الذنوب والمعاصي والآثام، وكم دمرت من أمم وأفراد وأقوام، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي؟! {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:١٦٥]، ما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء؟ طرده الله ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه، وجعل صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبُدِّل بالقرب بعداً، وبالرحمة لعنةً، وبالجمال قبحاً، وبالجنة ناراً تلظى، وبالإيمان كفراً، فهان على الله غاية الهوان، وسقط من عينه غاية السقوط، وحلَّ عليه غضب الربّ تعالى فأغواه ومقته أكبر المقت، فأرداه الله فصار قائداً لكل فاسق وفاجر، رضي لنفسه بالقيادة بعد تلك العبادة والسيادة، فعياذاً بك اللهم من مخالفة أمرك وارتكاب نهيك، قال الله للشيطان: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:١٨].

ولقد حذرنا الله من مكره وكيده فقال: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:٢٧].

ما الذي أوصله إلى تلك الحال؟ إنها الذنوب والتكبر على أوامر الله، ما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رءوس الجبال؟ وما الذي سلط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:٧]؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى تقطعت قلوبهم في أجوافهم، وماتوا عن آخرهم؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نُقلت أرواحهم إلى جهنم؟ فالأجساد للغرق والأرواح للحرق، إنها الذنوب قال سبحانه: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ * وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً * إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}