[هدايتي على يديه]
الخبر الثالث: هدايتي على يديه.
يقول الشاب: لم أكن قد بلغت الثلاثين حين أنجبت زوجتي أول أبنائي، ما زلت أذكر تلك الليلة، كنت سهران مع الأصحاب في إحدى الشاليهات، وكانت سهرة حمراء بمعنى الكلمة كما يقولون! أذكر ليلتها أني أضحكتهم كثيراً، فقد كنت أمتلك موهبة عجيبة في التقليد، وبإمكاني تغيير نبرة صوتي حتى تصبح قريبة من الشخص الذي أسخر منه، فكنت أسخر من هذا وذاك، ولم يسلم أحد مني حتى أصحابي، وصار بعض أصحابي يتجنبني؛ كي يسلم من لساني وتعليقاتي اللاذعة، وفي تلك الليلة سخرت من رجل أعمى رأيته يتسول في السوق، والأدهى أني وضعت قدمي أمامه ليتعثر، فتعثر وانطلقت ضحكتي حتى دوت في السوق، وعدت إلى بيتي متأخراً, ووجدت زوجتي في انتظاري، وكانت في حالة يرثى لها، فقالت: أين كنت يا راشد؟ قلت ساخراً: في المريخ، عند أصحابي بالطبع، فقالت والعبرة تخنقها: راشد إني مريضة جداً، والظاهر أن موعد ولادتي صار وشيكاً، وسقطت دمعة صامتة على جبينها، فأحسست أني أهملت زوجتي، وكان المفروض أن أهتم بها، وأقلل من سهراتي، خاصة أنها في شهرها التاسع.
ثم قاست زوجتي الآلام يوماً وليلة في المستشفى، حتى رأى طفلي النور، ولم أكن في المستشفى ساعتها، بل تركت رقم هاتف المنزل وخرجت، فاتصلوا بي حتى يعلموني بالخبر، ويزفوا لي نبأ قدوم سالم.
وحين وصلت المستشفى طلب مني أن أراجع الطبيبة، فقلت: أي طبيبة؟ المهم الآن أن أرى ابني سالماً، فقالوا لي: لابد من مراجعة الطبيبة، وأجابتني موظفة الاستقبال بحزن، فصدمت حين عرفت أن ابني به تشوه شديد في عينيه، ومعاق في بصره، وتذكرت المتسول، فقلت: سبحان الله، كما تدين تدان، ولم تحزن زوجتي فقد كانت مؤمنة راضية بقضاء الله، وطالما نصحتني وطلبت مني أن أكف عن تقليد الآخرين! كلا.
هي لا تسميه تقليداً، بل غيبة، ومعها كل الحق، ولم أكن أهتم بـ سالم كثيراً، واعتبرته غير موجود في المنزل، فحين يشتد بكاؤه أهرب إلى الصالة؛ لأنام فيها، ولكن زوجتي كانت تهتم به كثيراً وتحبه، أما أنا فإني لا أكرهه، لكني لم أستطع أن أحبه.
وأقامت زوجتي احتفالاً حين خطى خطواته الأولى، وحين أكمل الثانية اكتشفنا أنه أعرج، وكلما زدت ابتعاداً عنه زادت زوجتي حباً وتعلقاً بـ سالم، حتى بعد أن أنجبت عمر وخالداً.
ومرت السنوات وكنت غافلاً لاهياً، غرتني الدنيا وما فيها، وكنت كاللعبة في يد رفقة السوء، مع أني كنت أظن أني من يلعب عليهم.
ولم تيئس زوجتي من إصلاحي، فقد كانت دائماً تدعو لي بالهداية، ولم تغضب من تصرفاتي الطائشة، أو إهمالي لـ سالم، واهتمامي بباقي إخوته، وكبر سالم، ولم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في أحد المدارس الخاصة بالمعاقين.
ولم أكن أحس بمرور السنوات، فأيامي سواء، ليل ونهار، عمل ونوم، طعام وسهر، حتى ذلك اليوم -وكان يوم جمعة- فاستيقظت الساعة الحادية عشرة ظهراً، وما يزال الوقت عندي مبكراً، فقلت: لا يهم، وأخذت دشاً سريعاً، ولبست وتعطرت وهممت بالخروج، واستوقفني منظر سالم فقد كان يبكي بحرقة، إنها المرة الأولى التي أرى فيها سالماً يبكي منذ كان طفلاً، فقلت لنفسي: أأخرج أم أرى ممَ يشكو سالم؟ ثم قلت: لا، كيف أتركه وهو في هذه الحالة، ولم أدر أهو الفضول أم الشفقة؟ لا يهم، سألته: لماذا تبكي يا سالم؟! حين سمع صوتي توقف وبدأ يتحسس ما حوله، فقلت: ما به يا ترى؟! ثم اكتشفت أن ابني يهرب مني، وفي تلك اللحظة أحسست أين كنت منذ عشر سنوات، فتبعته وكان قد دخل غرفته ورفض أن يخبرني في البداية عن سبب بكائه، وتحت إصراري عرفت السبب: لقد تأخر عليه شقيقه عمر الذي اعتاد أن يوصله إلى المسجد في يوم الجمعة، وخاف سالم ألا يجد مكاناً في الصف الأول، فنادى والدته لكن لا مجيب، حينها رفعت يدي على فمه، كأني أطلب منه أن يكف عن حديثه، وأكملت حديثه قائلاً: حينها بكيت يا سالم! ولا أعلم ما الذي دفعني لأقول له: سالم! لا تحزن، هل تعلم من سيرافقك اليوم إلى المسجد؟ فأجاب سالم: لا شك أنه عمر، ليتني أعلم إلى أين ذهب.
فقلت: لا يا سالم! أنا من سيرافقك إلى المسجد.
فاستغرب سالم ولم يصدق، وظن أني أسخر منه، وعاد إلى بكائه، فمسحت دموعه بيدي وأمسكت بيده وأردت أن أوصله بالسيارة، فرفض قائلاً: أبي! المسجد قريب وأريد أن أخطو إلى المسجد، فإني أحتسب كل خطوة أخطوها.
يقول: لا أذكر متى دخلت المسجد آخر مرة، ولا أذكر آخر مرة سجدت فيها لله، ولكنها المرة الأولى التي أشعر فيها بالخوف والندم على ما فرطت طوال السنوات الماضية.
يقول: ومع أن المسجد كان مليئاً بالمصلين، إلا أني وجدت لـ سالم مكاناً في الصف الأول، استمعنا لخطبة الجمعة معاً، وصليت بجانبه، وبعد انتهاء الصلاة طلب مني سالم مصحفاً، فاستغربت كيف سيقرأ وهو أعمى، ولكن ذلك لم يتردد في نفسي، ولم أصرح به خوفاً من جرح مشاعره، وطلب مني أن أفتح له المصحف على سورة الكهف، فنفذت ما طلب، ووضع المصحف أمامه، وبدأ في قراءة السورة.
يا ألله! إنه يحفظ سورة الكهف كاملة، وعن ظهر قلب.
خجلت من نفسي، فأمسكت مصحفاً آخر، وأحسست برعشة في أوصالي، فقرأت وقرأت ودعوت الله أن يغفر لي ويهديني.
وفي هذه المرة أنا الذي بكيت حزناً وندماً على ما فرطت، ولم أشعر إلا بيد حنونة تمسح عني دموعي، لقد كان سالم يمسح دموعي، ويهدئ من خاطري، وعدنا إلى المنزل، وكانت زوجتي قلقة كثيراً على سالم، لكن قلقها تحول إلى دموع فرح حين علمت أني صليت الجمعة مع سالم.
ومنذ ذلك اليوم لم تفتني صلاة الجماعة في المسجد، وهجرت رفقاء السوء، وأصبحت إلى رفقة خيرة عرفتها في المسجد، وذقت طعم الإيمان، وعرفت منهم أشياء ألهتني عن الدنيا، ولم أفوت حلقة ذكر أو صلاة قيام، وختمت القرآن عدة مرات في شهر، وأنا نفس الشخص الذي هجره سنوات، وقصرت لساني على الذكر؛ لعل الله يغفر لي غيبتي وسخريتي من الناس، وأحسست أني أكثر قرباً من أسرتي، واختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تطل من عيون زوجتي، والابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني سالم، ومن يراه يظنه ملك الدنيا وما فيها، وصليت كثيراً وحمدت الله كثيراً على نعمه.
وذات يوم قررت أنا وأصحابي أن نتجه إلى إحدى المناطق البعيدة في برامج دعوية مع مؤسسة خيرية، وترددت في الذهاب، واستخرت الله، واستشرت زوجتي، وتوقعت أن ترفض، لكنه حدث العكس، فقد فرحت كثيراً، بل شجعتني حين أخبرت سالماً بعزمي على الذهاب فأحاط جسمي بذراعيه الصغيرين فرحاً، ووالله لو كان طويل القامة مثلي لما توانى عن تقبيل رأسي.
بعدها توكلت على الله وقدمت طلب إجازة مفتوحة بدون مرتب، والحمد لله جاءت الموافقة بسرعة، وتغيبت عن البيت ثلاثة أشهر، وكنت خلال تلك الفترة أتصل كلما سنحت لي الفرصة بزوجتي، وأحدث أبنائي، وكنت قد اشتقت لهم كثيراً، ولكني اشتقت أكثر لـ سالم، وتمنيت سماع صوته، فهو الوحيد الذي لم يحدثني منذ سافرت؛ لأنه إما أن يكون في المدرسة أو المسجد ساعة اتصالي بهم، وكلما حدثت زوجتي أطلب منها أن تبلغه سلامي وتقبله، وكانت تضحك حين تسمعني أقول هذا الكلام، إلا آخر مرة هاتفتها فيها فلم أسمع ضحكتها المتوقعة، فقد تغير صوتها، وقالت لي: إن شاء الله.
وأخيراً عدت إلى المنزل وطرقت الباب، فتمنيت أن يفتح لي الباب سالم، ولكني فوجئت بابني خالد الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره، فحملته بين ذراعي وهو يصيح: بابا بابا، وانقبض صدري حين دخلت البيت، واستعذت بالله من الشيطان الرجيم، فسعدت زوجتي بقدومي، ولكن هناك شيء قد تغير فيها، فتأملتها جيداً ورأيت نظرات الحزن التي ما كانت تفارقها، قد عادت مرة ثانية إلى عينيها، فسألتها: ما بك؟ قالت: لا شيء، وفجأة تذكرت من نسيته للحظات، وقلت لها: أين سالم؟ فخفضت رأسها ولم تجب، ولم أسمع حينها سوى صوت ابني خالد الذي ما زال يرن في أذني حتى هذه اللحظة، قال: أبي! إن سالماً راح عند الله في الجنة، فلم تتمالك زوجتي الموقف، وأجهشت بالبكاء وخرجت من الغرفة، فعرفت بعدها أن سالماً أصابته حمى قبل موعد مجيئي بأسبوعين، فأخذته زوجتي إلى المستشفى، ولازمته يومين، وبعد ذلك فارقته الحمى حين فارقت روحه الجسد، فأحسست أن ما حدث ابتلاء واختبار من الله سبحانه وتعالى، أجل إنه اختبار وأي اختبار؟ وصبرت على مصابي، وحمدت الله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وما زلت أحس بيده تمسح دموعي، وذراعه تحيط بي.
كم حزنت على سالم الأعمى الأعرج، الذي لم يكن أعمى، بل أنا من كنت أعمى حين انقدت وراء رفقة السوء، ولم يكن سالم أعرج؛ لأنه استطاع أن يسلك طريق الإيمان رغم كل شيء، ولا زلت أتذكر كلماته وهو يقول: إن الله ذو رحمة واسعة.
إن سالماً الذي امتنعت يوماً عن حبه اكتشفت أني أحبه أكثر من إخوانه، بكيت كثيراً وما زلت حزيناً، وكيف لا أحزن وقد كانت هدايتي على يديه؟ اللهم تقبل سالماً في رحمتك، اللهم إنا نسألك الثبات حتى الممات.