أذكر هنا حوادث على الطريق، الهدف من ذكرها العبرة والاعتبار لا التسلية والإخبار.
أول هذه الحوادث بعنوان:(حادث قبل العيد) يقول صاحب القصة: أيام العشر الأواخر من رمضان بدأت تنقضي، والعيد أصبح قاب قوسين أو أدنى، لا أعرف أين سنذهب أنا وصديق الطفولة، ولكن كالعادة الجزء الأكبر من وقتنا نقضيه في جولات بين الأسواق والتجمعات والشوارع، وحين استقريت على مقعد السيارة بجوار عبد الرحمن سألني: هل جهزت ثوباً جديداً تستقبل به العيد؟ قلت له: لا، قال: ما رأيك أن نذهب إلى الخياط الآن، سألته متعجباً وأنا أهز رأسي: بقي ثلاثة أيام أو أربعة على العيد، أين نجد الخياط الذي يسابق العيد ويختصر الأيام، فلم يجبني، وإنما انطلق بسيارته بسرعة مجنونة كأنه يسابق الزمن حتى توقف أمام محل للخياطة الرجالية، سلم صاحبي على الخياط بحرارة فهو يعرفه تمام المعرفة، ثم قال له: نريد أن نفرح بالعيد، ونلبس الجديد، ضحك الرجل وأجاب وهو يربت على كتف عبد الرحمن: يا عبد الرحمن! ألا تعلم كم بقي على العيد؟ لماذا لم تأت مبكراً؟ أجاب عبد الرحمن وهو يهز يده بحركة لها معنى: سنزيدك في الأجرة، المهم أن ينتهي قبل العيد، ثم أعاد عليه: المهم أن ينتهي قبل العيد.
يقول: وبينما أنا أرقب المفاوضات الشاقة إذا بصاحبي يدفع جزءاً من الثمن وهو يردد قائلاً للخياط: لا تنس الموعد، بعد غد إن شاء الله نريد أن نلبس الجديد.
يقول: ثم انصرفنا بسيارتنا نجوب الشوارع بلا هدف حتى قبيل الفجر ونحن لاهون ساهون غافلون، مضت الليلة كاملة ولم نذكر الله عز وجل فيها ولا مرة واحدة، وربما كانت ليلة القدر ونحن لا نشعر، حياة لا طعم لها، سعادة لا مذاق لها.
يقول: ولجنا من المعاصي كل باب، وهتكنا منها كل حجاب، تفحيط بالليل وتطعيس بالنهار، وحسبنا أن الأمر يمضي دون حساب، إظهار للسرور والسعادة، وضحكات تملأ المكان، ولكن -وضع تحت لكن عدة خطوط- في القلب هم وغم لا يعلمه إلا الله، والنفس تحترق بألم وحسرات وهي لا تدري كيف الهرب من هذا الألم وهذا الضيق، افترقنا قبيل الفجر يجمعنا الليل والسهر والعبث، نلتقي على المعاصي وتجمعنا الذنوب، نوم طويل يمتد من الفجر حتى العصر، صيام بلا صلاة، وصلاة بلا قلب، ساعة الصيام الوحيدة التي أستيقظ فيها هي قبيل المغرب، كانت أيام الصيام عبارة عن أيام عادية أقطعها بالمكالمات الهاتفية العابثة وبقراءة الصحف والمجلات، متتبعاً أخبار الفنانين والفنانات، وغيري يختم القرآن مرات ومرات، وذات مرة بينما أنا أنتظر موعد أذان المغرب، جاءتني مكالمة هاتفية من أحد الأصدقاء، وكان صوته متغيراً فقال: أما علمت أن عبد الرحمن مريض؟ قلت: لا، مساء البارحة كان بصحة وعافية، قال: إنه مريض، أدرك صاحبك! انتهت المكالمة، والأمر بالنسبة لي لا يعدو عن أن يكون معلومة غير صحيحة، وبينما كان المؤذن يرفع أذان العشاء إذا بصوت جرس الهاتف ينطلق مرة ثانية، رفعت السماعة فإذا به الشقيق الأكبر لـ عبد الرحمن، قلت في نفسي: ماذا يريد؟! أكيد أنه سيلومني وسيؤنبني على ما نفعله أنا وعبد الرحمن طوال الليل، أو أن أحداً أخبره بزلة من زلاتنا أو سقطة من سقطاتنا، لكن أتى صوته منهكاً مجهداً وعبراته تقطع حديثه، أخبرني بالخبر، قال: مات عبد الرحمن! بهت ولم أصدق، لا زال صوته يرن في أذني كأني أراه! كيف مات؟ من غير المعقول أنه مات بالأمس، ليلة البارحة افترقنا أنا وإياه وهو في أتم الصحة والعافية، قال أخوه: بينما هو منطلق إلى المنزل ليلة البارحة بسرعته الجنونية ارتطم بسيارة أخرى عند أحد التقاطعات فمات كل من في السيارة الأخرى، وحمل هو إلى المستشفى ولكنه فارق الحياة ظهر هذا اليوم.
يقول راوي القصة: أذني لا تصدق ما تسمع، لا أزال أراه أمامي نعم أمامي! بل اليوم كان موعدنا لنذهب إلى السوق الفلاني، وغداً موعدنا لنأخذ ثياب العيد، أيقظني صوت شقيق عبد الرحمن من غفوتي وهز جوانحي وأزال غشاوة كانت على عيني عندما قال: سنصلي عليه الظهر غداً، أخبر زملاءك.
انتهى الحديث بيني وبينه، وتأكدت أن الأمر جد لا هزل فيه، وأن أيام عبد الرحمن قد انقضت، آمنت بأن الموت حق، وأن موعدنا غداً هناك في المقبرة لا عند الخياط، لقد كان يتمنى أن يلبس ثوب العيد فتركه ولبس كفناً جديداً، تسمرت في مكاني، وأصبت بتشتت في ذهني ودوار في رأسي، فقررت أن أذهب إلى منزل عبد الرحمن لأستطلع الخبر وأستوضح الفاجعة، عندما ركبت سيارتي فإذا بشريط غناء في جهاز التسجيل، هذا هو الغناء الذي أفسد قلوبنا! ورباها على النفاق وجعلها أقسى من الحجارة! أخرجت الشريط فانبعث صوت إمام الحرم، من المذياع يعطر المكان بخشوعه وحلاوته، أنصت بكل جوارحي وكأنني أسمع هذا الكلام لأول مرة، وكأن الدنيا انقلبت، والقيامة قامت والناس تغيرت، أوقفت سيارتي على جانب الطريق أستمع إلى قراءة القرآن من الحرم، وكأني أسمع القرآن لأول مرة في حياتي، وعندما بدأ دعاء القنوت كانت دمعتي أسرع من صوت الإمام، فرفعت يدي لتستقبل تلك الدموع، يا الله ما أجمل الدعاء! وما أجمل الخضوع والخشوع واللجوء إلى الله! أخذ قلبي يردد صدى تلك العبرات، وبارقة أمل أقبلت خلف تلك الدموع أعلنتها توبة صادقة، بدأتها بصحبة طيبة ورفقة صالحة، ودعنا عبد الرحمن في اليوم التالي، وانطلقت أنا في طريق الهداية مع رفقة صالحة، أولئك الذين تركتهم بالأمس هم أحب الناس إلي اليوم من تطاولت عليهم بالأمس هم أنفع الناس في عيني اليوم من استهزأت بهم بالأمس هم أكرم الناس عندي اليوم، كنت على شفا جرف هار ولكن الله رحمني مع الرفقة الصالحة، هدأت نفسي، وأطلت علي السعادة التي كنت أبحث عنها ولا أعرفها، وأصبحت أشعر بانشراح في الصدر، وظهرت على وجهي أماراة سكينة ووقار زينتها تلك اللحية الجميلة التي بدأت تنمو وتكبر على وجهي، يا ألله ما أجمل السنة وما أجمل الاتباع! بعد يومين فاجأت الخياط وسألته عن ثوبي، سأل عن عبد الرحمن، قلت: عبد الرحمن مات، أعاد الاسم مرة ثم مرة، قلت له: عبد الرحمن مات، فبدأ يصف لي عبد الرحمن، ويصف لي سيارته، وكلامه، قلت له: نعم هذا هو، ولكنه مات، عندها أراني ثوبه، فبدأت أسترجع الذكريات ولسان حالي: هل حقاً مات؟ هذا ثوبي بجوار ثوبه، ومقعدي في السيارة بجوار مقعده، ولكن بقي لي أجل وعمر لعلي أستدرك ما فات، فحمدت الله على التوبة والرجوع والأوبة.
ولكن بقي لنا إخوة كثر مثل عبد الرحمن يعيشون في غفلة، ولا تزال الغشاوة على أعينهم، ولا يزال يعلو قلوبهم ران المعصية، فهل نتركهم يموتون كما مات عبد الرحمن؟ عبد الرحمن ذاك الذي كان يؤمل أن يلبس ثياب العيد، فلبس بدلاً عنه الأكفان، كيف نتركهم وأمامهم قبر ونار وعذاب؟! كيف نتركهم وأمامهم وأهوال صعاب؟ لن نتركهم وقد هدانا الله، بيننا وبينهم كتاب وشريط ونصيحة صادقة، اللهم ارحم عبد الرحمن برحمتك يا أرحم الراحمين.