[الاستعداد ليوم الحساب]
تخيل نفسك إذا تطايرت الكتب، ونصبت الموازين، وقد نوديت باسمك على رءوس الخلائق، أين فلان بن فلان؟ أين فلان بن فلان؟ استعد للوقوف بين يدي الله، هلم إلى العرض على الله، وقد وكلت الملائكة بأخذك فقربتك إلى الله، لا يمنعها اشتباه الأسماء باسم أبيك، فإذا عرفت أنك المراد بالدعاء، وإذا قرع النداء قلبك، فعلمت أنك المطلوب، فارتعدت فرائصك، واضطربت جوارحك، وتغير لونك، وطار قلبك، تخطى بك الصفوف إلى ربك، للعرض عليه، والوقوف بين يديه، وقد رفع الخلائق إليك أبصارهم، وأنت في أيدي الملائكة قد طار قلبك، واشتد رعبك، لعلمك أين يراد بك.
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) رواه البخاري.
تخيل -عبد الله- نفسك واقفاً بين يدي ربك، في يدك صحيفة مخبرة بعملك، لا تغادر بلية كتمتها، ولا مخبأة أسررتها، وأنت تقرأ ما فيها، بلسان كليل، وقلب منكسر حسير، والأهوال محدقة بك من بين يديك ومن خلفك، فكم من بلية قد كنت نسيتها ذكركها! وكم من سيئة قد كنت قد أخفيتها قد أظهرها وأبداها! وكم من عمل ظننت أنه سلم لك وخلص لك، فرده عليك في ذلك الموقف وأحبطه، بعد أن كان أملك منه عظيماً! فيا حسرة قلبك، ويا أسفك على ما فرطت فيه من طاعة ربك.
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك فقلت: يا رسول الله! أليس الله قد قال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:٧ - ٨]؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب) متفق عليه.
ثم يبدأ الحساب، وتكشف الحقائق، وتظهر الفضائح.
تذكر -عبد الله- أنك بين يدي الله موقوف، وأنك ستكلمه ليس بينك وبينه ترجمان، ستقف وستسأل عن القليل والكثير، عن الصغير والكبير، ستسأل عن العمر، عن الشباب، عن المال، عن كل نظرة، عن كل كلمة قلتها، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:٣٠].
ستسأل عن كل صلاة تخلفت عنها، وهل حفظت الصوم والزكاة، هل أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، هل دافعت عن أعراض المسلمين، ستسأل عن حقوق وواجبات، وأوامر ومنهيات، فمنهم من يحاسب حساباً يسيراً، وينقلب إلى أهله مسروراً، ومنهم من يحاسب حساباً عسيراً ويدعو ثبوراً.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يدني المؤمن منه يوم القيامة فيضع عليه كنفه -أي يضع عليه ستره- فيقول: فلان! أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: إي نعم رب أعرف، حتى يقرره بذنوبه، حتى إذا رأى العبد أنه قد هلك، قال أرحم الراحمين: فإني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)، فيعطى كتاب حسناته بيمينه، فهذا هو الحساب اليسير، أما الكفار والمنافقون، فينادى بهم على رءوس الخلائق: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:١٨].
حاسبوا أنفسكم عباد الله، واستعدوا للعرض أمام الله جل في علاه، إلى متى الغفلة عباد الله! ومنادي الله يناديكم: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:١]؟ اعلم -رعاك الله- أنه عند صرعة الموت، لا عثرة تقال، ولا توبة تنال.
كان خليد العصري يقول: كلنا أيقن بالموت، وما نرى له مستعداً، وكلنا أيقن بالنار، وما نرى لها خائفاً، وكلنا قد أيقن بالجنة، وما نرى لها عاملاً.
إلى متى الغفلة عبد الله؟! أين ندمك على ذنوبك؟! وأين حزنك على عيوبك؟! إلى متى تؤذي بالذنب نفسك؟! وتضيع يومك كما ضيعت أمسك؟ لا مع الصادقين لك قدم، ولا مع التائبين لك ندم، فهلا بسطت يداً سائلة، وهلا أجريت دموعاً سائلة، انتبه قبل أن تنادي: رباه ارجعون، فيقال: مات، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:٥٤]، انتبه قبل أن توقف أمام الله للعرض فتقول: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:٥٦].
مر الحسن البصري على أقوام يضحكون، فقال: هل مررتم على الصراط؟ قالوا: لا، قال: أتدرون إلى الجنة يؤخذ بكم أم إلى النار؟ قالوا: لا، قال: فعلام الضحك؟! لا على الصراط مررتم، ولا إلى الجنة تؤخذون، ولا من النار تنجون، وتضحكون؟! {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:٣].
فاتقوا الله عباد الله! {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:٢٨١].
أدوا الحقوق، وتحللوا من بعضكم، قبل ألا يكون درهم ولا دينار، أخلصوا أعمالكم لله، حافظوا على الصلوات، انتهوا عن الفواحش والمنكرات، توبوا إلى الله توبة نصوحاً.
اللهم إنا نسألك توبة نصوحاً قبل الموت، وشهادة عند الموت، ورحمة بعد الموت يا رب العالمين.
اللهم استر في ذلك اليوم عوراتنا، وآمن فيه روعاتنا، وثقل فيه موازيننا، وزحزحنا فيه عن النار، وأدخلنا فيه الجنة يا رب العالمين.
اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً يا رب العالمين.
اللهم ارحم الشيب، وبارك في أعمارهم يا رب العالمين.
اللهم احفظ نساءنا وأطفالنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، وانصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، وصن أعراضهم، واحقن دماءهم، وتقبل شهداءهم، وفك أسرانا وأسراهم.
اللهم اكبت عدوك وعدونا من يهود ونصارى وحاقدين، وافضح المنافقين والمعتدين، يا عليم يا خبير، يا قوي يا عزيز، ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم لا ترفع لهم في بلاد المسلمين راية، ولا تحقق لهم في بلاد المسلمين غاية، اللهم أخرجهم من بلاد المسلمين أذلة صاغرين، يا قوي يا عزيز.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:٩٠]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.