ثم انطلق أبو سفيان إلى أهل مكة، وأعلن لهم الأمان الذي منحه إياهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا من حمل سيفاً، أو تعرض لكتائب المسلمين، فدخلت الجيوش المسلمة مكة من جميع الجهات، واستسلمت مكة، فلم يكن هناك قتال ولا مقاومة إلا ما كان من جيش خالد بن الوليد حين التقى بسفهاء مكة وأوباشها، فرموا خالداً ومن معه بالنبال وعارضوه بالسيوف، فحمل عليهم خالد ومن معه حملة فرقت جمعهم، وهزمتهم شر هزيمة، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من أعلاها، وضربت له قبة بالحجون فنزل فيها، واستراح من وعثاء السفر، استسلمت مكة للفاتح الرشيد، وألقت مقاليدها بين يديه، وانتهت مهمة القائد بهذا الاستسلام، ركب ناقته القصواء، وتوجه نحو البيت العتيق، ومن حوله المهاجرون والأنصار، يحيطون به من كل جانب، طاف بالبيت سبعاً مطأطئ الرأس، دموعه على خده، يخافت ربه بالحمد والثناء، طاف وهو يردد قول الله:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء:٨١] سقطت مكة معقل الكفر والوثنية، وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وأصدر القائد العام عفواً عن أولئك الذين طردوه، وصبوا صنوف العذاب عليه وعلى أصحابه، أولئك الذين حاصروه في الشعب وحرموه ومن معه من أبسط حقوق الإنسان، ألم يتآمروا على قتله، وأخرجوه من مسقط رأسه؟ أما قاتلوه يوم بدر وأحد، وحاصروه يوم الخندق حين تآمروا مع اليهود؟! هاهم اليوم بين يديه وهو قادر على أن يذيقهم العذاب ألواناً، فأعلنها عفواً وإحساناً؛ لأن الله أرسله رحمة للعالمين.
أخي الحبيب! قف معي وتأمل بعد سماع خبر هذا الفتح العظيم في مثل هذه الأيام من هذا الشهر الكريم، عشر سنوات ما بين خروج النبي صلى الله عليه وسلم مطارداً مطلوباً حياً أو ميتاً، وما بين دخوله منتصراً فاتحاً، كيف تحقق هذا النصر ومن الذي حققه؟! تحقق بالإيمان والصبر والثقة واليقين، تحقق بالأخلاق الإسلامية من وفاء وصدق وعفو عند التمكين، تحقق بالإعداد والاستعداد لمثل هذا الفتح العظيم، ولن ينتصر المسلمون اليوم على أعدائهم إلا بما انتصر به أسلافهم من قبل قال تعالى:{إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:٧].
أخي الحبيب! ما كان لتلك الانتصارات أن تتحقق لولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات، وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يصنع ذلك بمفرده، لكن كما قال الله:{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال:٦٢ - ٦٤] وهل كانت الكوكبة التي التفت حول النبي صلى الله عليه وسلم إلا من الشباب، لكن أي شباب، شباب تربوا على تقوى من الله ورضوان.
شباب ذللوا سبل المعالي ما عرفوا سوى الإسلام ديناً تعهدهم فأنبتهم نباتا كريما طاب في الدنيا غصونا إذا شهدوا الوغى كانوا كماة يدكون المعاقل والحصونا شباب لم تحطمه الليالي ولم يسلم إلى الخصم العرينا وما عرفوا الأغاني مائعات ولكن العلا صيغت لحوناً نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.