[الملتقى الجنة]
الوقفة الثالثة: الملتقى الجنة.
عن رافع بن عبد الله قال: قال لي هشام بن يحيى الكناني: لأحدثنك حديثاً رأيته بعيني وشهدته بنفسي، قلت: حدثني يا أبا الوليد.
قال: غزونا أرض الروم سنة ثمان وثلاثين وكنا رفقة من أهل البصرة وأهل الجزيرة، وكنا نتناوب الخدمة والحراسة وإعداد الطعام وكان معنا رجل يقال له سعيد بن الحارث ذو حظ من عبادة يصوم النهار ويقوم الليل، وكنا نحرص على تخفيف النوبة عليه لطول قيامه وكثرة صيامه، فكان يأبى إلا بالقيام بكل المهمات وما رأيته في ليل ولا نهار إلا في حالة جد واجتهاد , فأدركني وإياه النوبة ذات ليلة في الحراسة وكنا قد حاصرنا حصناً من حصون الروم فاستصعب علينا، فرأيت من سعيد في تلك الليلة من الجلد والصبر على العبادة ما جعلني أحتقر نفسي.
قال: فلما أصبح الصباح لم ينم، فقلت له: خفف على نفسك فلنفسك عليك حق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اكلفوا من العمل ما تطيقون)، فقال لي: يا أخي! إنما هي أنفاس تعد وعمر يفنى وأيام تنقضي، فأنا رجل ينتظر الموت في أي لحظة.
فبكيت لجوابه ودعوت الله لي وله بالعون والتثبيت، ثم قلت: نم قليلاً لتستريح، فإنك لا تدري ما يحدث من أمر العدو، فنام تحت ظل خيمته وتفرق أصحابنا في أرض المعركة، وأقمت في موضعي أحرس رحالهم وأصلح طعامهم، فبينما أنا كذلك إذ سمعت كلاماً يأتي من ناحية الخيمة، فعجبت فليس هنا إلا سعيداً نائماً، ظننت أن أحداً جاءه ولم أره.
فذهبت إلى جانب الخيمة فلم أر أحداً وسعيد على حاله نائماً إلا أنه كان يتكلم في نومه ويضحك، أصغيت إليه وحفظت كلامه، ثم مد يده وهو نائم كأنه يأخذ شيئاً ثم ردها بلطف وهو يضحك ثم قال: الليل إذاً! ثم وثب من نومه وهو يرتعد خائفاً، فاحتضنته إلى صدري حتى سكن وهدأ، وجعل يهلل ويكبر ويحمد الله، فقلت: ما شأنك؟ فقد رأيت منك عجباً وسمعت منك عجباً، فحدثني بما رأيت! قال: أعفني من ذلك، فذكرته حق الصحبة وقلت: لعل الله ينفعني بما تقول، فحدثني عما رأى في منامه قال: جاءني رجلان لم أر قط مثل صورتهما كمالاً وحسناً فقالا: أبشر يا سعيد فقد غفر ذنبك, وشكر سعيك, وقبل عملك, واستيجب دعاؤك, وعجلت لك البشرى في حياتك، فانطلق معنا حتى ترى ما أعد الله لك من النعيم، قال: فأتيت على حور, وقصور, وجوار, وغلمان, وأنهار, وأشجار, فأدخلوني في قصري ثم إلى دار فيه حتى انتهيت إلى سرير عليه واحدة من الحور العين كأنها اللؤلؤ المكنون، فقالت لي: قد طال انتظارنا إياك! فقلت لها: أين أنا؟ فقالت: أنت في جنة المأوى، قلت: ومن أنت؟ قالت: أنا زوجتك الخالدة, فمددت يدي إليها، فردتها بلطف وقالت: أما اليوم فلا، إنك راجع إلى الدنيا، قلت: لا أريد الرجوع، فقالت: لا بد من ذلك وستقيم هناك - يعني في الدنيا- ثلاثا ثم تفطر عندنا إن شاء الله تعالى، فقلت: بل الليلة، قالت: إنه كان أمراً مقضياً، ثم قامت من مجلسها، فوثبت لقيامها، فإذا أنا قد استيقظت، وأنا أسألك بالله ألا تحدث بحديثي هذا واسترني ما حييت! قلت: أبشر فلقد كشف الله لك ثواب عملك، ثم قام وتطهر واغتسل ومس طيباً ثم حمل سلاحه ونزل إلى أرض القتال وهو صائم وظل يقاتل حتى الليل، فلما انصرف أصحابه وهو فيهم قالوا: يا أبا الوليد لقد رأينا من هذا الرجل عجباً، حرص على الشهادة وطرح نفسه تحت السهام والرماح، وكل ذلك يصرف عنه، قلت في نفسي: لو تعلمون خبره لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً! قال: فأفطر على قليل من الطعام وبات ليله قائماً، فلما أصبح صنع كصنيعه بالأمس، وفي آخر النهار عاد هو وأصحابه وذكروا عنه مثلما ذكروا بالأمس، حتى إذا كان اليوم الثالث انطلقت معه وقلت: لا بد أن أشهد أمره وأرى ما يكون، فلم يزل يقاتل ويكبد الأعداء الخسائر وينكل بهم ويصنع الأعاجيب وهو يبحث عن القتل والموت في مظانه، وأنا أراه وأرعاه بعيني ولا أستطيع الدنو منه، حتى إذا نزلت الشمس للغروب وهو أنشط ما كان، فإذا برجل من أعلى الحصن قد تعمده بسهم فوقع في نحره فخر صريعاً وأنا أنظر إليه، فصحت بالناس، فحملوه وبه رمق من حياة وجاءوا به، فلما رأيته قلت له: هنيئاً لك ما تفطر عليه الليلة، يا ليتني كنت معك فأفوز فوزاً عظيماً، فعض شفته السفلى وأومأ لي ببصره وهو يضحك وقال: اكتم أمري والملتقى الحنة، ثم قال: الحمد لله الذي صدقنا وعده! فوالله ما تكلم بشيء غيرها، ثم فاضت روحه وآيات الله تناديه: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:١٦٩ - ١٧١].
هذي الجنان تزينت فتفتحت أبوابها طرباً إلى العشاق أينام من عشق الجنان وحورها وكرائم الجنات للسباق بل كيف يغفل موقن بعظيم سلـ ربه وبذا النعيم الباقي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً, وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً, وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً, وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً)، فذلك قول الله جلا في علاه: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:٤٣].
فيا بائعاً هذا ببخس معجل كأنك لا تدري بلى سوف تعلم فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا يا أرحم الراحمين.