[حديث الشفاعة]
روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في وليمة فقدمت إليه الذراع، فنهس منها نهسة واحدة، ثم قال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، أتدرون مما ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فلا يغادر الداعي منهم أحداً، فيسمعون الداعي، ويبصرهم الناظر، ثم تدنو الشمس من رءوس العباد مقدار ميل -قال الراوي: لا أدري أميل المسافة أم ميل المكحلة-، قال: فيغرق الناس في عرقهم، فمنهم من يأخذه العرق إلى كعبيه، ومنهم من يأخذه العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه العرق إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، فبينما هم على تلك الحال من الشدائد والأهوال إذ قال بعضهم لبعض: ألا ترون ما نحن فيه؟ ألا ترون ما قد غلبنا من الهم والغم؟ ألا ترون من يشفع لنا عند ربنا؟ فيقولون: أبوكم آدم، فيهرعون إلى آدم فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسكنك جنته، أما ترى ما نحن فيه، أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم، فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني نهيت عن تلكم الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، فيتبرأ آدم أبو البشر من البشر فيزداد الهم والغم على الناس، فيقول لهم: اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً فيقولون: أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، أما ترى ما نحن فيه، أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم، فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، فيزداد الهم والغم على الناس، فيقول لهم: اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبي الله وخليله أما ترى ما نحن فيه؟ أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كذبت ثلاث كذبات -ولو عددناها نحن لعددناها من صالح أعمالنا فهو كذبها في ذات الله جل في علاه وما كان كاذباً-، فيقول: نفسي نفسي نفسي، فيزداد الهم والغم على الناس، فيقول لهم إبراهيم: اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون له: أنت نبي الله وكليمه، أما ترى ما نحن فيه؟ أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، فيزداد الهم والغم على الناس-، فيقول لهم: اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: أنت نبي الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنباً)، فهل تدري من هؤلاء الذين ينادون بأعلى الصوت: نفسي، نفسي، نفسي إنهم المصطفى آدم، والشكور نوح، والخليل إبراهيم، والكليم موسى، وكلمة الله عيسى! فهؤلاء خير من صلى وصام، وهؤلاء خير من عبد الله وأطاعه، فإن كان هذا هو حالهم في ذلك اليوم فكيف يكون حالي وحالك؟! وكيف سيكون حال من ترك الصلاة؟! وكيف سيكون حال من أكل الربا؟! وكيف سيكون حال أولئك الذين حاربوا الله بالمعاصي؟! فإنهم ينادون: يا آدم! يا نوح! يا إبراهيم! يا موسى! يا عيسى! وكلهم يجيبون بأعلى الصوت: نفسي نفسي نفسي.
(فيقول لهم عيسى اذهبوا إلى محمد، فيأتون فيقولون: يا محمد! أنت نبي الله، وخاتم المرسلين، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، أما ترى ما نحن فيه؟ أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فأقول: أنا لها).
يقول الحبيب: أنا لها، فأبشروا يا أمة محمد! فما تخلى عنا محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف.
(فأقول: أنا لها، فأنطلق إلى العرش فأخر ساجداً، فيفتح الله علي من محامده ما لم يفتحه على بشر من قبلي، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي أمتي)، فما تخلى عنا الحبيب، فأين أمة محمد اليوم عن سنته؟ وأين أمة محمد عن نصرة دعوته؟ يا مدعي حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دين المحبينا مالي أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تهويناً وتدوينا خذها سماوية خيراً تفوز به أو اطَّرحها وخذ رجس الشياطينا (فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي أمتي، فيقال: يا محمد! أدخل من أمتك من ليس عليه حساب من الباب الأيمن من الجنة، وهم شركاء الناس في سائر الأبواب يقول -بأبي هو وأمي-: والذي نفسي بيده! إن ما بين المصراعين من مصارع الجنة كما بين مكة وهجر، وليأتين عليها يوم وهي كظيظ من الزحام!)، فيشفع الحبيب، ويأذن الله في الحساب.
لا تظن أن الأمر بهذا قد انتهى، بل انتقل الناس من حال إلى حال، ومن أهوال إلى أهوال، فيبدأ العرض، ويبدأ الحساب: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف:٤٨] حفاة، عراة، غرلاً، قالت عائشة: (الرجال والنساء عراة ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! الأمر أعظم من أن ينظر بعضهم إلى بعض).
فكيف سيكون حالي وحالك {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:٢١ - ٢٣]، يؤتى بجهنم في ذلك الموقف لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها! {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:١٢] تزفر زفرة فتصيح الخلائق بأعلى الصوت، ثم تزفر زفرة ثانية فتجثوا الأمم على الركب: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:٢٨ - ٢٩].
{إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:١٢]، وتقول: والله لأنتقمن اليوم ممن خلقته فعبد سواك، والله لأنتقمن اليوم ممن أكل رزقك وشكر سواك.
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:٢٣].
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:١٨]، فينادي الله في ذلك الموقف: (يا آدم! أخرج بعث النار، فيقول: يا رب! لبيك وسعديك والخير كله بيديك، وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: فذلك يوم {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:٢]).
فقل لي من الناجي في ذلك اليوم؟! وأين سيكون المصير؟! فيصف العباد صفوفاً متتالية متتابعة، والقلوب واجفة، والأبصار خاشعة، والكل ينتظر كيف سينتهي ذلك اليوم، فبينما هم وقوف على ذلك الحال إذ نادى المنادي: فلان بن فلان! استعد للوقوف بين يدي الله، فكيف سيكون حالي وحالك؟! فتأخذه الزبانية مطأطئ الرأس، راجف القلب، لا يدري إلى أين يؤخذ به، والخلائق كلها تنظر إليه، فعن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: (يدني الله العبد منه يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه -يعني ستره- ثم يقرره بذنوبه -إن كان تائباً عابداً منيباً لله قرره الله بذنوبه في ذلك اليوم- حتى إذا ظن العبد أنه هلك، قال أرحم الراحمين: إني قد سترتها لك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، فيعطى كتابه بيمينه) فيخرج بين الخلائق صائحاً فرحاً مسروراً قائلاً بأعلى الصوت: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:١٩ - ٢٠]، وأما إن كان عاصياً فاجراً محارباً لله بالمعاصي فيقرره الله بذنوبه، حتى يقر ويعترف بكل ذنب، فيشتد غضب الجبار عليه تبارك وتعالى، فينادي زبانيته وملائكته: يا ملائكتي! خذوه، ومن عذابي أذيقوه، فلقد اشتد غضبي عليه، وقل حياؤه معي، فيربط بالسلاسل والأغلال، ويسحب على وجهه أمام الخلائق، وينادي بأعلى الصوت حسيراً كسيراً: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:٢٥ - ٢٧]، والنتيجة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:٣٠ - ٣٢]، وجريمته: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:٣٣ - ٣٧].
فأسألك بالله العظيم أما أمرنا بالاستعداد لذلك اليوم؟ أما خلقنا من أجل تحقيق العبودية لله رب العالمين؟ أما قال الله: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:٦]؟ فنفر من الناس علموا لماذا خلقوا، وحققوا العبودية لله رب العالمين، وأكثر الناس غفلوا عن هذا المقصد العظيم، ويذَكَّرون فلا يتذكرون، ويُوعظون فلا يتعظون.
والله! إن الخسارة كل الخسارة إذا وقفنا في ذلك الي