للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لست فاتنة بل ظالمة]

أسوق إليك هذه القصة التي هي بعنوان: (لست فاتنة بل ظالمة): اختصرتها مع طولها ففيها من العبرة الشيء الكثير، اسمها فاتنة وهي كاسمها جريئة متحررة مثقفة في كل شيء إلا في الدين، الدين عندها أن تكون ذات قلب طيب، ولا عليها بعد ذلك أن تخالط من تشاء، تلبس ما تشاء، تفعل ما تشاء.

جمعت ليلة صويحباتها في الكلية للاحتفال بعيد ميلادها، عيد ما أنزل الله به من سلطان ورثناه عن الكفار تشبهاً وتقليداً (ومن تشبه بقوم) سأترك البقية لكم! كانت في أجمل هيئة وأحسن مظهر، بدأت تدور بين صويحباتها تطلق الضحكات هنا وهناك تسألهن: أتدرين يا بنات ماذا ينقص حفلتنا هذه؟ فأجبنها إجابات وهي تقول: لا، ثم لا، وهي مصرة على سؤالها، ثم قالت مجيبة على سؤالها وهي تضحك: تنقصنا الشيخة علياء، فانطلقت موجات الضحك من كل مكان، ثم قالت أحداهن مدافعة: لماذا كل هذا الضحك؟ لماذا كل هذا الضحك والاستهزاء بـ علياء؟! أليست زميلتنا في الصف! أليست صديقتنا في الكلية! ألم تكن إلى عهد قريب رفيقة لنا في سهراتنا وحفلاتنا وهي الآن في محرابها مع صلواتها وقرآنها، إنها تبحث عن الآخرة ونحن عن ماذا نبحث؟! فتجاهلن سؤالها.

قالت أخرى: لقد ذهبنا إليها -أي إلى علياء - لندعوها لعيد الميلاد ولكنها اعتذرت وأعطتنا محاضرة طويلة عريضة في الأخلاق والدين والعادات والاجتماعات.

قالت فاتنة: مسكينة علياء! لقد كانت عاقلة متحررة قبل أن يصيبها هذا الهوس الديني الذي اختطفها من بيننا -قلت أنا: سبحان الله أصبح الدين هوساً وجنوناً- ثم تابعت فاتنة حديثها وهي تقول: فعلاً مسكينة علياء! لقد انقلبت بسرعة وتسممت أفكارها وتغيرت هيئتها، لقد أطالت ثيابها فأصبح منظرها ككبيرات السن لم تعد تؤمن بأن خير اللباس ما قل ودل، والأدهى من ذلك شعرها أصبح بضاعة محرمة مغطاة تحت ذلك السواد، مسكينة علياء! نسيت أن الله يهمه منا القلب وكل ما عدا ذلك شكليات.

الله أكبر! أصبح الحجاب والتمسك بالدين شكليات، قاتل الله الشاشات والقنوات.

ثم تابعت فاتنة حديثها عن علياء: إنها تخوفنا من النار وأن الله سيحرق به أجسادنا المكشوفة، إنها تنذرنا من شيء اسمه الموت، وآخر تسميه الحساب، بل اسمعوا يا بنات! إنها تحملنا مسئولية إغواء الشباب وإغراء الرجال، فقالت أحداهن: لقد قتلتها الهواجس والوساوس ونسيت أن النساء للرجال خلقن ولهن خلق الرجال، مسكينة علياء! أين ستجد فتى أحلامها، أين ستجد السعادة والأنس، لقد قتلت نفسها وهي في ريعان الشباب، ولا بد أن نصنع شيئاً لإنقاذها.

مساكين! ما درين أنهن هن بحاجة إلى إنقاذ.

فارتفعت الأصوات: لا بد من إنقاذها! إنها تقتل نفسها بطول العبادة وكثرة الصيام وقراءة القرآن ولزوم البيت، فلا أسواق ولا حفلات، ما هذا الفهم الخاطئ للدين، إن الحياة متعة وحرية، أما الموت فمالنا وله الآن، نعم سنموت عندما نشيخ ونهرم.

إنه الأمل الطويل! ووالله ما حال بين الناس وبين الصدق في التوبة إلا طول الأمل، ومن أطال الأمل أساء العمل، قال الله تعالى عنهم: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:٣].

انتهى الاحتفال ودارت سنوات تخرجت فيها فاتنة وتخرجت علياء وثبتت على طريق الاستقامة والالتزام، فماذا حدث لـ فاتنة، وماذا حدث لـ علياء؟ تعالوا أحبتي أعطوني المسامع نتابع القصة من مكان آخر: في إحدى المستشفيات في الدور الرابع في غرفة من الغرف صوت أنين مريضة يملأ الغرفة، إنها في تلك الغرفة منذ عدة أشهر، ولقد أيس الأطباء من حالتها وأصبح صوت أنينها معتاداً مألوفاً في المستشفى ولا أحد يستطيع أن يفعل لها شيئاً، لقد تعودت الممرضات على سماع أنينها، أما الطبيبة المناوبة الجديدة في المستشفى فلم تستطع أن تتجاهل ذلك الصوت وذلك الأنين، فقلبها مليء بالرحمة، وهكذا الإيمان يملأ القلب رحمة وعطفاً على الآخرين.

فأخذت بعض العقاقير والمهدئات ودخلت لتلك الغرفة، فتحت الباب فإذا بامرأة على السرير في شبه غيبوبة، جست نبضها فإذا هو ضعيف على وشك التوقف، أصغت إلى تنفسها فكان التنفس مضطرباً خافتاً، جلست بجانبها وأعطتها بعض المنعشات فأفاقت بعد قليل واستوت على سريرها، أدارت عينيها فيما حولها -المريضة- ثم ثبتت نظرها على وجه الطبيبة، ثم أخذت تفرك عينيها بيديها الضعيفتين، ثم زاد اضطرابها ثم قالت للطبيبة: أسألك بالله من أنت؟! فقالت: أنا الطبيبة يا أمي! فقالت المريضة: أنا لا أسألك عن مهنتك، أنا أسألك عن اسمك، أسألك بالله ألست أنت علياء؟ فقالت الطبيبة باستغراب: بلى أنا علياء، وفي لحظات إذا بالمريضة تأخذ برأس علياء تطوقه بذراعيها وتضمه إلى صدرها وتقبله وتجهش بالبكاء.

زاد استغراب علياء وصعقت: من عساها تكون هذه المرأة؟ وهل بها مس من جنون؟! كيف عرفتني وأنا لم أقابلها من قبل ولم يسبق لي علاجها، بل هذه أول ليلة لي في هذا المستشفى كطبيبة مناوبة.

فرجعت علياء برأسها إلى الوراء وأخذت تنظر إلى المريضة مشدوهة لا تدري ماذا تفعل، ثم قالت للمريضة: من أنت يا خالة؟ وكيف عرفت اسمي؟ وهل التقينا من قبل؟! فردت المريضة بصوت تخنقه العبرات: نعم يا علياء لقد التقينا مرات ومرات، إن اسمك وصورتك لم يفارقا خاطري خاصة عندما أصابني المرض قبل ثلاث سنوات، آه يا علياء، أنا التي أكلت لحمك واستهزأت بك أنا فاتنة يا علياء، أنا فاتنة يا علياء، ثم انفجرت بالبكاء والنحيب.

صدمت علياء ولم تستطع الكلام ثم قالت وهي لا تصدق ما سمعت: أقسمت عليك بالله أأنت فاتنة؟! مستحيل فاتنة كانت كاسمها أصغر وأجمل وأنضر.

فقالت فاتنة بصوت خافت متقطع: نعم، أنا التي كان يقال لها ذات يوم فاتنة، فأكبت عليها علياء تضمها إلى صدرها وتجهش بالبكاء المرير الأليم عليها.

فلما هدأ البكاء أخذت فاتنة تروي قصة سبع سنين منذ أن افترقتا، قالت: تخرجت من البكالوريا وحاولت إكمال الدراسة، فلم أستطع، كنت لاهية متمردة على كل شيء، لم أكن أشك بالله، ولكني كنت أعتقد بأن كل ما له علي أن أكون طيبة القلب وكفى، تعرفت على شبان وفتيات وفتيان ثم ارتبطت برجل تعرفت عليه في الوظيفة أحبني وأحببته، لكننا كنا نعيش حياة غافلة بعيدة عن الله، ثم بعد زواجنا بسنوات رزقنا الله بطفلة صغيرة جميلة رائعة سميتها سوسن على اسم صاحبتي التي تعرفينها، ثم بدأت أشكو من آلام في بطني فقال الأطباء: إنها قرحة، فأخذت أتعالج ولكن دون فائدة، أخذت آلامي تزيد وهمومي تزيد، وبدلاً من أن أهرب إلى الله فررت إلى مزيد من الغفلة والضياع، ثم تدهورت صحتي وجاء التشخيص الجديد ليقول: بداية تورم خبيث في المعدة، وهكذا استحالت القرحة إلى سرطان، ثم أخذ السرطان يستفحل ويزيد إلى أن أقعدني هنا أصارع الألم وأنتظر الموت في أية لحظة، لم أر ابنتي منذ أربعة أشهر، عمرها الآن أربع سنوات وزوجي لم يأت لزيارتي منذ أسبوعين، لقد تعب من التردد علي كل يوم لعله ملني أو كرهني.

فلما سمعت علياء قصتها لم تتمالك نفسها وانخرطت في بكاء شديد، ثم تمالكت نفسها وقامت إلى فاتنة تضمها إلى صدرها تواسيها وتخفف عنها: لا تجزعي يا فاتنة، لا تجزعي يا فاتنة لقد عرفتك شجاعة قوية، لا تقنطي من رحمة الله، لا تستسلمي لليأس، قد يكتب الله لك الشفاء وقد يكون هذا ابتلاء، فاستسلمي إلى قضاء الله وقدره واصبري فالصبر جميل والله مع الصابرين.

هدأت فاتنة وغطت وجهها بكفيها وأخذت تقول: عفوك يا الله! عفوك يا الله، لم يبق لي سواك فهل تقبلني، رحماك يا الله! ليته الابتلاء ولكنه الانتقام، لكم تجاهلت تلك الآيات تقرأ على مسامعي، لكم تجاهلت كلام أمي الصالحة الحنون، إنه الانتقام للضحايا الذين فتنتهم وأغويتهم، يا الله! كم أغويت من شاب وكم أفسدت من فتاة، ثم أخذت تردد وتقول: اقترب مني يا موت فلطالما خدعتني أوهامي، لقد ظننت أنك لا تأخذ إلا الكبار والشيوخ وتترك الشباب، لقد خدعتني نفسي وغرني أملي.

يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل ثم أخذت تسأل علياء: أصحيح يا علياء أن القبر مظلم! أصحيح أن القبر ضيق! فتجيب نفسها: نعم صحيح وعما قريب سأحمل إليه جسداً بارداً هامداً، هناك لن يكون معي أهل ولا أحباب، ولن يكون معي مال ولا ثياب، لن يكون هناك زوج ولا أصحاب.

يا الله! كيف سأفارق صغيرتي سوسن أنا لا زلت صغيرة ولم أشبع من الحياة، ثم تلمست عينيها، وقالت: بكما أرى النور وكم أسقطت بنظراتي من شاب، أحقاً سيأكلكما الدود؟! وينهشكما التراب؟! أخذتها علياء بين ذراعيها وضمتها إلى صدرها وأخذت تقرأ عليها القرآن وتدعو لها بالشفاء، وأخذت تقول لها: كفى يا فاتنة لا تيأسي من رحمة الله ولا من شفاء الله.

قالت فاتنة: أسألك بالله يا علياء: أيغفر الله لي وقد فعلت ما فعلت وأجرمت ما أجرمت؟ فقالت علياء بصوت واثق: وكيف لا يا فاتنة أليس الله واسع المغفرة؟ أليس الله تواباً رحيماً؟ ألم تسمعي قول الله وهو يخاطب العصاة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَف