[الاستعدادات التي قام بها الجيش الإسلامي في أرض المعركة]
وفي السادس عشر من رمضان قبل المعركة بيوم، في السنة الثانية من الهجرة تحرك النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه ليسبق المشركين إلى مواقع الماء في بدر، ثم يحول بينهم وبين الاستيلاء على مواقع المياه.
وأثناء التحرك حدثت حادثة تجلت فيها عظمة القيادة أكثر مما مضى، فالقيادة لا تتعصب للرأي، وإن رأت رأياً أصلح للمسلمين اتخذته استجابةً لأمر الله أن الأمر شورى بينهم، واليوم تجد أن الشورى في وادٍ ونحن في وادٍ آخر! فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بدراً، تكلم أحد القادة -وهو الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه- فقال: يا رسول الله! هذا المنزل الذي نزلته هل هو منزل أنزلكه الله إياه -ولاحظ الأدب، فالجندي كذلك يعرف كيف يتكلم مع القادة- فقال: يا رسول الله! المنزل هذا الذي نزلته الآن هل هو منزل أنزلكه الله إياه أم هو الرأي والحرب والمشورة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا، بل هو الرأي والحرب والمشورة) فقال: يا رسول الله! فإن هذا ليس بمنزل، فامض بالناس حتى نأتي آخر مواقع المياه وأول موقع لقريش عند الماء، ثم نهدم الآبار كلها، ثم نبني الحوض فنشرب ولا يشربون، حتى يهلك العدو عطشاً.
والمقاتل يحتاج إلى إمداد وسقيا أثناء القتال، فنقطع عنهم المدد المائي.
ولاحظوا الآن فهم يقولون: إن الفلوجة ستستسلم بعد أيام؛ لأنهم يحاصرونها من كل الجهات، وما دروا أن المدد يأتي من السماء! فهم يأخذون بالأسباب المادية، وهم مساكين لا يدرون أن للكون رباً يسيره، يقول الله في الحديث القدسي:(وعزتي وجلالي ما اعتصم بي عبدٌ من عبادي وكادته السماوات والأرض إلا جعلت له من بينها مخرجاً)، وأهل الفلوجة يقاتلون من أجل ماذا؟ أليس من أجل نصرة هذا الدين؟ فسيأتيهم الفرج ليس مني ولا منك، فنحن قد خذلناهم حتى بالدعاء، نسأل الله العفو والعافية، لكن لم يخذلهم رب الأرض والسماء.
فقال: يا رسول الله! نغور المياه حتى نشرب ولا يشربون، فماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال:(نعم الرأي) أي: لقد أشرت بالرأي، فذهب الجيش حتى إذا أتى أقرب ماء من العدو نزل عليه، ثم أمر بالقلب -جمع قليب- فغمرت عملاً بمشورة الحباب، ثم بنى حوضاً على القليب الذي نزل عليه فملئ ماءً.
إنها أمة القرآن التي قال الله عنها:{وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى:٣٨]، وقال الله لنبيه:{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران:١٥٩].
فالأمر في جيش المسلمين شورى ومحبة ومودة وثقة ويقين واستعداد، وانظر! ففي المقابل قريش {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى}[الحشر:١٤]، وهم إلى اليوم هكذا لا يتغيرون، ووالله ما أتينا من قبل قوتهم، ولكن بسبب ضعفنا وتفرقنا نحن، فلو اجتمعت كلمتنا وتوحدت صفوفنا فوالله الذي رفع السماء وبسط الأرض لن تقوم لهم قائمة على ما عندهم من العدة والعتاد.
قال ابن عثيمين: يستطيع الله بلحظات أن يضرب زلزالاً يدمر من القوى ما لا تستطيع قواهم أن تفعله في سنوات، فبقوة جبار السماوات يضربهم بزلزال يسقط قواهم من أولها إلى آخرها حتى لو اجتمعوا.