[بداية كيد الشيطان لآدم وذريته]
وحديثنا ليس عن الشياطين بشكل عام، ولكن عن شيطانهم الأكبر، فمتى بدأ كيد الشيطان؟ تعالوا نستمع لهذه الآيات، ونتدبر فيها، ونرى أساليب الشيطان المتنوعة في إضلال البشرية، وكيف نجح في إخراج آدم من الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف:١١]، فقد خالف الأوامر، والملائكة لا تعصي لله أمراً: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:١٢]، فافتخر بأصله، {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف:١٣]، فكان التكبر أول ذنب عُصي به الله تبارك وتعالى، ودافع ذلك هو الحسد أعاذنا الله وإياكم من ذلك، فقد حسد إبليس آدم فتكبر على أوامر الله جل في علاه، {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:١٢ - ١٤].
فهنا سأل إبليس الله سؤالاً فأعطاه إياه، وليس ذلك لكرامته على الله؛ بل لهوانه على الله تبارك وتعالى، {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} [الأعراف:١٤ - ١٥].
ثم تعهد إبليس وتوعد: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:١٦ - ١٧].
وهو يقصد بهذا التوعد والتهديد البشرية أجمعين، فقال: ((لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ))، وصدق حين قال: ((وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ))، فصدق وهو الكذوب، ولا تجد أكثرهم شاكرين، فسأجلس لهم على صراطك المستقيم، فإن أراد أحدهم الصلاة أو الصيام أو القيام، أو أراد الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، أو أراد طاعتك؛ خذلته عن الطاعات، وقدته إلى المعاصي والمنكرات.
{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:١٨]، فخرج وطُرد من الجنة.
ثم بدأ كيده لآدم في وسط الجنة، قال الله: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:١٩].
فإذا عصيت فأنت ظالم، وإذا خالفت الأوامر فأنت ظالم؛ ولذلك فكل عاص لله ظالم لنفسه.
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف:٢٠]، وهذا هو أسلوبه، فهو لم يجبر الناس إجباراً، ولم يضربهم على أيديهم، ولا قادهم إلى المنكرات بالسلاح، وإنما وسوس إليهم، والوسوسة هي: الصوت الخفي، أو هي حديث النفس، {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} إما بحديث النفس أو بإدخال الحية في الجنة -كما قيل- فبدأت توسوس لآدم، وهدفه من ذلك: ((لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا))، يريد أن ينتشر التعري والتفسخ بين البشرية؛ حتى تنتشر الفاحشة والرذيلة، وهذه هي أسرع الطرق لإغوائهم.
فقال لهما: ((قَال مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ* وَقَاسَمَهُمَا))، أي: أقسم لهما بالله إنه لمن الناصحين، فصدقه آدم، وما ظن آدم بفطرته السليمة أن هناك من يحلف ويقسم بالله كاذباً.
{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:٢١]، فكان هو أول من أقسم بالله كاذباً.
{فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف:٢٢].
وقد حذر الله آدم كما قال: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:١١٧].
وقد حذرنا الله أيضاً منه وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:٦].
وبعد أن عصى آدم وحواء عليهما السلام الله تعالى تابا كما قال الله عنهما: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٢٣]، والنتيجة: ((قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)) لحكمة أرادها الله، {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف:٢٤] أي: إلى أن يأتي وعد الله تبارك وتعالى.
{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف:٢٥].
فهذا هو العدو الذي حذرنا الله منه، فكم أغوى من عابد! وكم أضل من زاهد! وكم أضل من الشباب! وكم أضل من شيب! وكم أغوى من فتاة! وكم ضيع من شاب! حتى إذا ضيعهم تبرأ منهم قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:١٦].
فإذا أسقط الإنسان في الكفر والضلال والمعصية تبرأ منه، ومن العجب العجاب أن الإنسان يسقط مرة تلو الأخرى، ويُلدغ من نفس الجحر مرات كثيرة!