اسمع بارك الله فيك وأنت تتساقط أمام فتن وشهوات ومغريات اسمع كيف ثبت الشباب، واسمع بارك الله فيك هذا الخبر.
في آخر فترات النبي صلى الله عليه وسلم خرج كذابان يدعيان النبوة أحدهما بصنعاء، وهو الأسود بن كعب العنسي، وخرج الثاني باليمامة وهو مسيلمة الكذاب، وراح الكذابان يحرضان الناس على المؤمنين الذين استجابوا لله وللرسول، وفوجئ الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً بمبعوث بعثه مسيلمة بكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه:(من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك، وإنا لنا نصف الأرض ولقريش نصفها الآخر، ولكن قريشاً قوم يعتدون)، فرد النبي صلى الله عليه وسلم كتابه وكتب إليه كتاباً يقول فيه:(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد.
فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين).
فلقد ظن الكذاب أن النبوة ملكاً يريد أن يتقاسمه، فلما وصل إليه الكتاب ما زاده إلا ضلالاً وإضلالاً، ومضى ينشر إفكه وبهتانه، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه رسالة ينهاه فيها عن حماقاته، وعن كذبه وافتراءاته، لكن من سيحمل هذه الرسالة إلى هذا المتكبر العاتي الجبار، فوقع الاختيار على أحد الشباب، ومن للمهمات العظام والمدلهمات إلا الشباب وقع الاختيار على حبيب بن زيد رضي الله عنه وأرضاه، وهو شاب ملأ الإيمان قلبه، وهو على أتم الاستعداد للتضحية من أجل الله ورسوله، ومن أجل نصرة هذا الدين.
ومن للمهمات العجيبة والمهمات العظيمة إلا الشباب يا شباب! لكن أين الشباب الذين تربوا على الوحي: كتاب وسنة، وتربوا على تقوى من الله ورضوان: شباب ذللوا سبل المعالي ما عرفوا سوى الإسلام دينا تعهدهم فأنبتهم نباتاً كريماً طاب في الدنيا غصونا إذا شهدوا الوغى كانوا كماة يدكون المعاقل والحصونا شباب لم تحطمه الليالي ولم يسل إلى الخصم العرينا وما عرفوا الأغاني مائعات ولكن العلا صيغت لحونا فسافر حبيب رضي الله عنه في هذه المهمة الخطيرة وهو فرح مسرور لاختيار النبي صلى الله عليه وسلم له، وللثقة التي وكلت إليه، فلما وصل حبيب إلى مسيلمة الكذاب الذي لم يعرف المروءة ولا العروبة ولا الرجولة، جمع الكذاب قومه بعد أن قيد حبيباً بالقيود، وأنزلوا به صنوف العذاب والهوان، وأرادوا من ذلك أن يسلبوه الشجاعة والإقدام حتى يفتتن أمام الجميع ويعلن إيمانه بالكذاب، لكن أنى لهم ذلك، فقال مسيلمة لـ حبيب: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال حبيب: نعم أشهد أن محمداً رسول الله، فعلا الخزي والعار وجه مسيلمة، وعاد يسأل ويقول: وتشهد أني رسول الله؟ فأجاب حبيب بسخرية قاتلة: إني لا أسمع ما تقول، فاشتد غضب الكذاب، وعلم أن تعذيبه للشاب المؤمن لم يؤثر فيه، بل زاده ثباتاً وإيماناً فهاج كالثور المذبوح، ونادى الجلاد أن أحضر السيف، ثم راح يقطع جسد حبيب قطعة قطعة وعضواً عضواً، وكان كلما قطع منه قطعة قال له: أتشهد أني رسول الله، فيقول حبيب: لا أسمع شيئاً، ولا أشهد إلا أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فلا زالوا يقطعونه عضواً عضواً، وفي كل مرة يرددون عليه: أتشهد أن مسيلمة رسول الله؟ وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا زالوا يقطعونه عضواً عضواً وهو صابر محتسب حتى فارقت الروح الجسد.
فأسألك بالله: أما كان باستطاعته أن يساير الكذاب ويظهر تصديقه به وهو معذور بهذا، لكنه الإيمان الذي صنع أولئك الشباب الأبطال، فقد ثبت وجسده يقطع قطعة قطعة، وثبت وهم يساومونه على دينه ومعتقده، وثبت لأنه يعلم أن الجنة غالية وأن السلعة غالية، فأنى لطالب الجنان أن يتنازل، وأنى لطالب الحور الحسان أن يتنازل.