للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فوائد الابتلاء بالفقر]

عباد الله! إنّ الابتلاءات والمحن نعم عظيمة على المؤمن، تتربى فيها النفوس على الصبر، فيقوى بذلك الإيمان، فالفقر ابتلاء من الله، فإذا صبر الفقير واحتسب كان الفقر له نعمة عظيمة من الله.

فمن فوائد الفقر: أن الفقير أقل حساباً يوم القيامة من الغني، ولهذا فإن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء، روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام)، وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اطلعتُ في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء).

وقد ذكرنا في الخطبة الأولى أن المرض ابتلاء من الله وامتحان، فإذا صبر المريض على ذلك واحتسب كان المرض له نعمة عظيمة، فالمرض تكفير للذنوب، وحط للخطايا، قال صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)، رواه مسلم.

إذاً عباد الله! فكل مصيبة تصيب المؤمن فإنها تكون نعمة عليه إذا صبر واحتسب، وتكون نعمة عليه لو أنه نظر في أمور أخرى منها: أنها لم تكن في دينه، وأنها لم تكن أعظم مما كانت.

أخرج ابن أبي الدنيا عن شريح قال: ما أصيب عبد بمصيبة إلا كان لله عز وجل فيها ثلاث نعم: أنها لم تكن في دينه، وأنها لم تكن أعظم مما كانت، وأنها لا بد كائنة مهما كان.

وعن عبد الله بن المبارك عن سفيان قال: كان يقال: ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة، ويعد الرخاء مصيبة.

ذكر الإمام الغزالي رحمه الله كلاماً طويلاً في بيان نعمة الله في الابتلاء حيث يقول: في كل فقر ومرض وخوف وبلاء في الدنيا خمسة أمور ينبغي أن يفرح العاقل بها، ويشكر عليها: أولها: أن هناك مصائب وأمراض أكبر من هذه، فليشكر إذ لم تكن أعظم مما هي عليه.

الثانية: أنه كان يمكن أن تكون هذه المصيبته في دينه، قال رجل لـ سهل رضي الله تعالى عنه: دخل اللص في بيتي وسرق متاعي، فقال سهل: اشكر الله تعالى، كيف لو دخل الشيطان إلى قلبك، وسرق التوحيد وأفسده، ماذا كنت تصنع؟ وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ما ابتليتُ ببلاء إلا كان لله تعالى عليّ فيه أربع نِعَم: إذ لم تكن في ديني، وإذ لم تكن أعظم مما كانت، وإذ لم أُحرم الرضا بتلك المصيبة، وأني أرجو الثواب عليها من الله.

ولعل قائلاً يقول: كيف أفرح وأنا أرى جماعة ممن زادت معصيتهم على معصيتي ومع ذلك لم يصابوا بمثل ما أصبت به، وقد يكونون كفاراً؟! فأقول: اعلم بارك الله فيك أن الكافر والعاصي قد خُبِّئ لهم ما هو أكثر، وإنما أمهلهم الله حتى يستكثروا من الإثم قال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:١٧٨].

قال الغزالي: الثالثة من نعم البلاء أنه ما من عقوبة إلا كان يتصور أن تؤخر إلى الآخرة، ومصائب الدنيا يتسلى عنها بأسباب أخرى تهون المصيبة فيخف وقعها، وأما مصيبة الآخرة فتدوم، وإن لم تدم فلا سبيل إلى تخفيفها بالتسلي، ومن عُجِّلت عقوبته في الدنيا فلا يعاقب مرة ثانية، فالله أكرم من أن يعاقب العبد مرتين.

قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الترمذي وابن ماجة: (إن العبد إذا أذنب ذنباً، فأصابته شدة أو بلاء في الدنيا، فالله أكرم من أن يعذبه ثانية).

الرابعة من نعم البلاء: أن هذه المصيبة والبلية كانت مكتوبة عليه في أم الكتاب، وكان لا بد من وصولها إليه، ووقوعها عليه، وقد وصلت ووقع الفراغ، واستراح من بعضها أو جميعها، وهذه نعمة من نعم الله.

الخامسة من نعم الابتلاءات: أن ثوابها أكبر منها، فإن مصائب الدنيا طريق إلى ثواب الآخرة، كما يكون الدواء الكريه نعمة في حق المريض، فمن عرف هذه الأمور تُصوِّر منه أن يشكر على البلايا، ومن لم يعرف هذه النعم في البلاء لم يتصور منه الشكر، إنما الشكر يتبع معرفة النعم بالضرورة، ومن لم يؤمن بأن ثواب المصيبة أكبر من المصيبة لم يتصور منه الشكر على المصيبة أصلاً.