[بداية حشر ونهاية]
لا تظن أن الأمر بالموت قد انتهى بل هناك بداية ونهاية أخرى.
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شيء نعم سيبعثر ما في القبور، وسيحصل ما في الصدور.
فهيا ننتقل من خبر إلى خبر، تعال ننتقل إلى موقف عظيم، ألا هو موقف الحشر.
والحشر: هو جمع الخلائق يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم.
الحشر: هو جمع الناس أولهم وآخرهم ليوم لا ريب فيه، سماه الله يوم الجمع، {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:٩]، وقال سبحانه: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:١٠٣]، وقال جل في علاه: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:٤٩ - ٥٠].
تأمل حالهم: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:٤٣ - ٤٤].
فلا إله إلا الله على يوم مثل هذا قدرة الله أحاطت بهم فلا يعجزه شيء، حيثما هلك العباد فإن الله قادر على الإتيان بهم، إن هلكوا في أجواء الفضاء، أو غاروا في أعماق الأرض، إن أكلتهم الطيور الجارحة، أو الحيوانات المفترسة، أو أسماك البحار، أو غيبوا في قبورهم في الأرض.
تأمل في قوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:١٤٨].
وكما أن قدرة الله محيطة بعباده يأتي بهم حيثما كانوا، فكذلك علمه محيط بهم فلا ينسى منهم أحداً، ولا يضل منهم أحد، ولا يشذ منهم أحد، لقد أحصاهم ولن يغادر منهم أحداً، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:٩٤ - ٩٥].
الناس فيه سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، أسكرتهم الشدائد والأهوال.
قال قتادة: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٦] قال: سمعت الحسن يقول: ما ظنك بأقوام قاموا لله عز وجل على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة، تدنى الشمس من رءوسهم مقدار ميل فيغرقون في عرقهم.
فقل لي بالله العظيم: كيف سيكون الحال؟! عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: (إن الكافر يلجم يوم القيامة بعرقه من طول ذلك اليوم).
وقال علي رضي الله عنه: إن الكافر يقول من طول القيام: رب! أرحني ولو إلى النار.
وأنت وأنا لا محالة من بينهم، فتوهم نفسك وتخيل وقد علاك العرق وأطبق عليك الغم وضاقت نفسك في صدرك من شدة الفزع والرعب، والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى دار السعادة أو إلى دار الشقاء، حتى إذا بلغ منك المجهود ومن الخلائق منتهاه، وطال وقوفهم لا يكلمون ولا ينظرون في أمورهم كلم بعضهم بعضاً في طلب من يقدم على مولاه أن يشفع لهم في الراحة من مقامهم وموقفهم لينصرفوا إلى الجنة أو إلى النار، ففزعوا إلى آدم ونوح ومن بعده إبراهيم وموسى وعيسى وكلهم يقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله فكلهم يذكر شدة غضب ربه عز وجل وينادي بالشغل بنفسه فيقول: نفسي نفسي، فيشتغل بنفسه عن الشفاعة لهم إلى ربهم لاهتمامه بنفسه وخلاصها، وصدق الله حين قال: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:١١١]، قال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:١٠٥ - ١١٢].
فلا إله إلا الله على أهوال يشيب لها الولدان، وتذهل المرضعات عن الأطفال، وتضع الأمهات الأحمال، كيف سيكون حالي وحالك: {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:٢١ - ٢٣].
لا إله إلا الله (يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، لو تركت على أهل المحشر لأتت على برهم وفاجرهم)، {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:١٢]، فإذا نظرت إلى الخلائق فارت وثارت وشهقت وزفرت نحوهم وتوثبت عليهم غضباً لغضب ربهم {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:٧ - ١٠].
فتتساقط الخلائق حينئذ على ركبهم جثاة حولها، قد أسبلوا الدموع، ونادى الظالمون بالويل والثبور {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:١٤]، ثم تزفر ثانية فيزداد الرعب والخوف في القلوب، ثم تزفر الثالثة فتتساقط الخلائق على وجوههم ويشخصون بأبصارهم وهم ينظرون من طرف خفي خوفاً أن تبلغهم أو يأخذهم حريقها أجارنا الله منها.
أيا من ليس لي منه مجير بعفوك من عذابك أستجير أنا العبد المقر بكل ذنب وأنت الواحد الفرد القدير فإن عذبتني فبسوء فعلي وإن تعف فأنت به جدير فتصور وتخيل أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم كل واحد منهم منفرد بنفسه يقول: نفسي نفسي! فلا تسمع إلا قول: نفسي نفسي.
فيا هول ذلك وأنت تنادي معهم بالشغل بنفسك والاهتمام بخلاصها من عذاب ربك وعقابه.
إنه يوم قد بدأ وسوف ينتهي؛ لكن قل لي بالله العظيم: كيف ستكون النهايات؟ وإلى أين المصير؟ ما ظنك بيوم ينادي فيه المصطفى آدم والشكور نوح والخليل إبراهيم والكليم موسى والروح والكلمة عيسى مع كرامتهم على الله وعظم قدر منازلهم عند ربهم.
كل ينادي: نفسي نفسي، هذا حال أتقى البشر، فكيف سيكون حالي وحالك؟! وكيف يكون خوفي وخوفك؟! حتى إذا أيس الخلائق من شفاعتهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه الشفاعة إلى ربهم فأجابهم لها وقال: أنا لها أنا لها.
عند الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم وما سواه إلا تحت لوائي).
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تبارك وتعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:٧٩] هي الشفاعة، فينطلق صلى الله عليه وسلم إلى العرش فيخر ساجداً فيفتح الله عليه من محامده والثناء عليه ما هو أهله فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط واشفع تشفع، فيقول: يا رب! أمتي أمتي، فيجيبه ربه عز وجل إلى تعجيل عرضهم والنظر في أمورهم).
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:١٨] {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:٣٩ - ٤٠].
{أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:٥٧ - ٦٢].