[جزاء الاستجابة لله تعالى]
قال الله تعالى: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:٢٤]، قال ابن القيم رحمه الله: ففي الاستجابة لله وللرسول حياة، وعلى قدر الاستجابة تكون هذه الحياة، فبعض الناس قد يأخذ بشيء ويترك شيئاً، فحياته على مقدار الشيء الذي يأخذه، وفيه من الموت بمقدار ما ترك من أوامر الله والتجرؤ على نواهيه، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:١٢٢] أي: بنور الله تبارك وتعالى، وبوحي السماء الذي أنزله على أمين الوحي في الأرض، قال الله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:٥٢ - ٥٣].
فالمطلوب مني ومنك بعد سماع المواعظ القرآنية: الاستجابة لله وللرسول، كما قال الله: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:٢٤].
والمطلوب كما قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ * مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [الروم:٤٣ - ٤٥].
والمطلوب كما قال الله: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:٣١ - ٣٢].
فها نحن ندعى إلى الاستجابة لأوامر الله قبل أن يحل ذلك اليوم العظيم، ولما دعي أولئك القوم وأمروا بالاستجابة أجابوا {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:٢٨٥].
عن أنس قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة وكان شرابهم إلا الفضيخ: البسر والتمر، فإذا منادٍ ينادي فقال أبو طلحة لـ أنس: اخرج وانظر ما شأن هذا الذي ينادي، فإذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، قال أبو طلحة: اخرج فأهرقها، قال: فأهرقتها حتى جرت بها سكك المدينة، فلما قرأت عليهم الآيات: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:٩٠ - ٩١]، فكانت إجابتهم أن قالوا وقد ذعنوا لله رب العالمين: انتهينا ربنا! انتهينا ربنا، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:٥١].
وليس للعبد ولا للأمة خيار غير الاستجابة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم.
جاء عند مسلم (أنه لما تنزل قوله تبارك وتعالى في أواخر سورة البقرة: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:٢٨٤] جاء الصحابة، وجثوا على ركبهم عند النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! أمرنا بما نستطيع ففعلنا: أمرنا بالصلاة فصلينا، وأمرنا بالصيام فصمنا، وأمرنا بالجهاد والقتال في سبيل الله فجاهدنا، وأمرنا بالنفقة والبذل والعطاء فأعطينا، ولقد تنزلت آية لا طاقة لنا بها، من منا يستطيع ألا يحدث نفسه، أو يستطيع أن يكتم ما في داخله عن حديث نفسه؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين لما دعوا إلى الاستجابة لله وللرسول فقالوا: سمعنا وعصينا؟! ولكن قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)، فلما ذلت لها أنفسهم، وقرت بها قلوبهم، تنزل قوله تبارك وتعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:٢٨٥].
فلما أيقنوا وتيقنوا واستجابوا لأمر ربهم تبارك وتعالى، وذلت بها الأنفس والقلوب، نسخ الله تلك الآية بقوله تبارك وتعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:٢٨٦]، فليس للمؤمن والمؤمنة خيار إلا الاستجابة لأوامر الله وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥].