عليها، وخوف اعتقادهم تأثيرها، فتركوها ليسقط النظر عنها ويتحقق مقام التوكل، وهذه فضيلة ودرجة عالية في سلوك طريق الحق ومجاهدة النفس وقمع هواها، فجُوزُوا بدخول الجنة بغير حساب.
وأما أرباب الانتهاء المقربون الواصلون إلى مرتبة حق اليقين، المشاهدون قدرة الحق على كل حال في وجود الأسباب وعدمها، بل في وجودها أتم وأكمل؛ لكمال القدرة في خلقها، فلا عليهم أن يتشبثوا بالأسباب ويتمسكوا بها، ونظرهم ساقط عنها في ذلك، وهذه درجة أعلى من الأولى، وهم قد قطعوا الدرجة الأولى وارتقوا منها، فلهم الجزاء المذكور، وحصلت لهم الحسنى وزيادة، وفعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأكابر الصحابة من هذا القبيل، وهذا هو حقيقة التوكل والتفويض ونهايته، وهو أعلى من الصبر وانتظار الفرج بالدعاء، وهو حقيقة مقام الرضا والتسليم، وهذا الكلام موافق لما ذكره السادة من الصوفية الصفية قدس اللَّه أسرارهم، ولا ينافيه الحديث، فتدبر، واللَّه الموفق.
ثم احتجاج البعض بهذا الحديث على كراهة التداوي والمعالجات غلط؛ لأنه لا يفهم منه كراهتها، غاية ما يفهم منه كونها مرتبة أدنى ورخصة كما لا يخفى.
ثم اعلم أن في الحديث وجها آخر هو الأظهر عند التأمل، وهو أن المنفي هو الاسترقاء برقى الجاهلية التي لا يؤمن فيها من الشرك بقرينة قوله:(ولا يتطيرون)، فإن التطير والتشاؤم من عادة الجاهلية، فالمراد أنهم يتركون أعمال الجاهلية، وهذه ينبغي أن تكون مرتبة عوام المسلمين؛ لورود النهي عنها، ومع ذلك فيهما فضيلة ولهما جزاء ذكر؛ لأن أكثر المسلمين مبتلون بارتكاب الأسباب وإن كانت جاهلية،