كان المجيء لمهم آخر فقد عرفت يوم الخميس فانصرف، فقال لها: إن معي كتاب والي مكة في مهم، فدخلت وخرجت وفي يدها كرسي فوضعته، فإذا مالك شيخ طوال قد خرج وعليه المهابة وهو متطلِّس، فدفع الوالي الكتاب إليه، فلما بلغ إلى قوله: إن محمد بن إدريس رجل شريف من أمره كذا وكذا رمى الكتاب من يده فقال: سبحان اللَّه! صار علم الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بحيث يطلب بالرسائل، قال الشافعي: فقدمت إليه فقلت: أصلحك اللَّه إني رجل مطّلبي من حالتي وقصتي كذا وكذا، فلما سمع كلامي نظر إليّ ساعة، وكان لمالك فراسة فقال لي: ما اسمك؟ فقلت: محمد، فقال لي: يا محمد اتق اللَّه واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشؤون، فقلت: نعم وكرامة، فقال: إن اللَّه تعالى قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية، ثم قال: إذا كان غدًا تجيء [وتجيء] بمن يقرأ لك "الموطأ"، فقلت: إني أقرأه من الحفظ، ورجعت إليه من الغد وابتدأت بالقراءة، فكلما أردت قطع القراءة خوفا من ملاله أعجبه حسن قراءتي، فيقول: يا فتى زد، حتى قرأت (١) في أيام يسيرة، ثم أقمت بالمدينة إلى أن توفي مالك.
وكان الشافعي إذا حكى قولًا لمالك قال: هذا قول أستاذنا مالك.
قال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: أيَّ رجل كان الشافعيُّ؟ فإني سمعتك تكثر الدعاء له، فقال لي: يا بني! كان الشافعي كالشمس للنهار وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو عنهما عوض.
وقال أخوه صالح بن أحمد: جاء الشافعي يومًا إلى أبي يعوده وكان عليلًا، قال: فوثب أبي عليه وقبّل بين عينيه ثم أجلسه في مكانه وجلس بين يديه، ثم أخذ يسأله ساعة، فلما قام الشافعي وركب أخذ أبي بركابه ومشى معه، فبلغ يحيى بن معين ذلك،
(١) كذا في الأصل، والصواب: "قرأته"، كما في "تاريخ دمشق" (٥١/ ٢٨٦).