فلا تجد أحدًا إلا وهو يقرّ بأن له صانعًا وإن سماه بغير اسمه، أو عبد معه غيره، وفيه: أنه إن كانت هذه المعرفة والإقرار حاصلًا لكل أحد باقيًا له بحيث لا يوجد إلا به كما هو ظاهر عبارة القائل فلا يكون لتهويد الأبوين تأثير في ذلك، وإن قيل بحصوله في حال الولادة، ثم زواله بتهويد الأبوين آل المعنى إلى أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته والتمكن من ذلك لو لم يعقه عائق من جهة الأبوين، وذلك هو المعنى الذي ذكر قبل هذا، على أن قوله تعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}[النحل: ٧٨] يرد هذا القول.
وقيل: المراد يولد في ابتداء الخلقة في علم اللَّه مؤمنًا أو كافرًا، سعيدًا أو شقيًا، فأبواه يهودانه أي: في حكم الدنيا، وهذا المعنى ركيك، فإنه لا جودة لتعقيب قوله:(فأبواه يهودانه) على خلقه كافرًا شقيًّا، وإنما يحسن على خلقه مؤمنًا سعيدًا، على أن الحق أن الفطرة غير السابقة الأزلية الحاكمة بالشقاوة والسعادة، وعلى حكم السابقة ورود قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرًا).
فلما استبان لك ما ذكرنا ظهر أن الوجه هو أن المراد من الفطرة التمكن من معرفة الحق بخلق العقل فيه بحيث لو نظر نظرًا صحيحًا أدرك الحق واختار دين الإسلام، واختيار الكفر إنما هو بالعوارض والعوائق التي يصدّ عن النظر الصحيح والجريان على حكم الفطرة، ولعلنا كنا نختار من الأول هذا القول، ولم نذكر ما سواه تركًا للتطويل والانتشار، ولكن القلم جرى ما جرى بتقدير القادر المختار، وهو أعلم وعلمه أحكم.
وقوله:(كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء) قال الطيبي (١): قوله: (كما) إما حال