وقوله:(من محمد عبد اللَّه ورسوله)(١) أي: هذا المكتوب صادر منه، وعبد اللَّه صفة محمد أو بدل عنه، وفيه أن السنة في المكاتبة أن يبدأ الكاتب بنفسه فيقول: من زيد إلى عمرو مثلًا، وكذلك كان الصحابة يكتبون إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وما كان أحدٌ أعظمَ حرمةً منه -صلى اللَّه عليه وسلم- عندهم وهذا هو الصحيح، وجوَّزَ بعضُهم الابتداء بالمكتوب إليه، وروي أن زيد بن ثابت كتب إلى معاوية فبدأ باسم معاوية.
وإنما قدم صفة العبودية على الرسالة تواضعًا وإشارة إلى أنه مطيع لأوامره تعالى منقاد لا يتصرف من عند نفسه بشيء، ولأنه أخص صفاته -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يشاركه في حقيقتها أحد وهو العبد الحقيقي الذي ثبتت له حقيقة العبودية التي هي الانسلاخ من النفس وصفاتها وإراداتها والفناء في اللَّه تعالى فهو العبد، واللَّه تعالى هو الرب.
وقوله:(إلى هرقل) بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف، وقد يسكن الراء ويكسر القاف، وقد يقال: بسكون الراء مع فتح الهاء كخندق، غير منصرف، ملك الروم، وأول من ضرب الدنانير، وأول من أحدث البيعة، وهو صاحب حروب الشام، ملك إحدى وثلاثين سنة، وفي ملكه مات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.
وقوله:(عظيم الروم) لم يقل ملك الروم لئلا يكون ذلك مقتضيًا لتسليم الملك إليه وهو معزول عنه بحكم الدين، ومع ذلك أتى بنوع من الملاطفة فقال: عظيم الروم، أي: رئيسهم الذي يطيعونه ويقدمونه كما يكون رؤساء البلاد والقريات ومقدموهم إلانةً للقول واستمالةً له.
(١) في "التقرير": لعله هكذا يكون طريق المكاتبة في زمنه عليه السلام، وتقديم الاسم على التسمية في زمن سليمان عليه السلام لما جاء: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} الآية [النمل: ٣٠].