قلنا: ليس الأمر كذلك في التحقيق، ولا يقع سمت القبلة بالمدينة على السواء من بيت المقدس، وإن ذكره بعض العلماء بناء على الظاهر فذلك مبني على التقريب، ويعلم ذلك بالحس من النظر في مطالع البروج ومغاربها، وبالحساب بمعرفة طول البلدين وعرضهما؛ فإن طول المدينة خمس وسبعون درجة وعشرون دقيقة، وعرضها خمس وعشرون درجة، وطول بيت المقدس ست وستون درجة وعشرون دقيقة، وعرضها أحد وعشرون درجة وأربعون دقيقة، فلا يكون مسامتين على ما ذكره التُّورِبِشْتِي، واللَّه أعلم.
فإن قلت: في حديث جابر أنه قال: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها، وهذا يدل على أن الرخصة كان آخر الأمرين، فلا يجوز القول بنسخه.
قلنا: قال الترمذي: حديث جابر غريب حسن، فلا يقاوم حديث أبي أيوب وهو صحيح، على أنه يحتمل أنه انحرف عنها يسيرًا ولم يشعر به جابر، أو كان في بعض أسفاره بحيث تشتبه القبلة فيه فحسب أنه متوجه إلى جهة الكعبة ولم يكن كذلك، على أنه يحتمل بعد أن الرخصة نسخت ثانيًا؛ لكونه قبل أن يقبض بعام، وهذه الاحتمالات وإن كانت لا تخلو عن بعد لكنها تجمع الأحاديث، وأحاديث النهي كثيرة راجحة، والاحتياط في ذلك.
ثم اعلم أن الوجه في قول الشافعي بالرخصة في البنيان ليس مبنيًّا على أن الستر في ظاهر ما يرى حاصل في البنيان دون الصحراء كما يتبادر إلى الفهم، بل الوجه كما قالوا هو أن الصحراء لا تخلو عن مصلٍّ من ملك أو جني أو إنسي، فإذا قعد مستقبل القبلة أو مستدبرها ربما يقع نظر مصلٍّ على عورته، وهذا المعنى مأمون في البنيان،