وأصحابُ هذا الاتِّجَاهِ قَامُوا باستنباطِ القواعدِ الأُصُوليَّة مِنَ الفُرُوع الفقهيَّة؛ لخدمةِ هذه الفُرُوع وإثباتِ سلامَةِ الاجْتِهَادِ فِيها، كما قَرَّرْنا آنفًا.
يقولُ العلَّامة الخُضَريُّ:"هذا الاتِّجَاهُ يُراعى فيه تطبيقُ الفُرُوع المذهبيَّةِ على القَواعِد، حتَّى إنَّهم كانُوا يقرِّرون قواعِدَهم على مُقْتَضَى ما نُقِلَ من الفُرُوع عَنْ أئمَّتهم، وإذا كانَتِ القاعدةُ يترتَّب عليها مخالفةُ فَرْعٍ فقهيٍّ، شَكَّلُوها بالشَّكْل الَّذي يتَّفِق مَعه، فكأنَّهم إنَّما دوَّنوا الأُصُول الَّتي ظَنَّوا أن أئمَّةَ المَذْهَب اتَّبَعُوها في تَفْريع المَسَائل وإبْداء الحُكْم فِيها، وَقَدْ يُؤَدِّي بِهِمْ ذلكَ فِي بَعْضِ الأحْيَان إلى تَقْرِيرِ قَوَاعِدَ غَريبةِ الشَّكْل؛ لذلك نرى طريقَتَهُمْ مملوءَةً بالفُرُوع الكثيرة؛ لأنَّها في الحقيقة هي الأصولُ لتلك القَوَاعِد"(١).
والمتتبع لتاريخِ ظُهورِ هذا الاتِّجاه المذهبيِّ المتأثِّرِ بالفُروع يُدْرِك بوضوحٍ السَّبَبَ الَّذِي دَفَع أصحابَهُ إلى ذلك الاستنباطِ.
لقد كانَتْ للأئمَّةِ المُجْتهِدِينَ قَبْل الشَّافعي ﵀ مناهجُ يلاحظونها في الاسْتِنْباط، لكنَّهم لم يوَضِّحُوا هذه المَنَاهِجَ، ولم يُدَوِّنُوها.
فمثلًا: لم تكنْ للحنفيَّةِ أصولٌ فقهيَّةٌ مفصَّلةٌ ومدوَّنةٌ، كذلك كان الإمامُ مالكٌ ﵁ حيْثُ لم يُرْوَ عَنْه تفصيلٌ لمناهجه. وحتَّى الإمامُ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ ﵁ لم يُرْوَ عَنْه تفاصيلُ مناهِجِه، كما أنَّه ﵁ لم يُحَاوِلْ تدوينَها.
وبعد أنْ شَرَع الإمامُ الشَّافعيُّ ﵁ في دراسةِ المَنَاهج الأصوليَّة وتدوِينها، وصارَ ذكْرُه مَعْرُوفًا في البِلادِ الإسْلاميَّة شرْقًا وغَرْبًا، أدْرَكَ كثيرٌ من العُلَماء أهميَّة مَعْرِفةِ أصُولِ إمامِهِمْ للدّفاع عن فُرُوعهم، كما أدْرَكُوا مَدى حاجَتِهِمْ إلى هذه الأُصُول؛ ليمكنَهُمْ أنْ يُخرِّجوا على المَذْهَب أحكامَ الفُرُوعِ الَّتِي لم يُعْرَفْ لأئمَّة المَذْهَب أحكامٌ فيها، حتَّى لا يَخْرُجوا عن مقَايِيسِ المَذْهَب. ولهذا المذهبِ خصائصُ ومميِّزاتٌ تميِّزه يُمْكِن أنْ نلخِّصها فيما يلي:
١ - لَيْسَتْ بحوثُه مجرَّدة، بل هي دراساتٌ مطبقةٌ في فروعٍ، وبحوثٌ كلِّيَّةٌ وقضايا عامَّةٌ، تُطَبَّقُ على فروع.