الإجماع حجَّة قطعًا عند الجميع من أَهْلِ القبلة، ويفيد العلمَ الجازمَ، ولا عبرة بمن خالف في حجيَّته كالنَّظَّامِ والشِّيعة، وبعض الخوارج؛ لأنهم قليلون من أهل البدع والأهواء قد حَدَثوا بعد الاتفاق، يشككون في الضَّرُوريات الدِّينيَّة، كالسُّوفسطائيَّةِ في الضَّروريات العقليَّة، وقد احتجَّ أهل الحقِّ بمسالك من الكتاب والسُّنَّةِ والمعقول.
المَسْلَكُ الأَوَّلُ الْكِتَابُ:
استدلَّ الشافعيُّ ﵁ على حجيَّةِ الإجماع في "رسالته" بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [سورة النساء: ١١٥] ذكر العلامة السُّبْكِيُّ: أَنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَنْبَطَ الاسْتِدْلَالَ بِهذِهِ الآيَةِ بَعْدَ أَنْ تَلَا الْقُرْآنَ ثَلاثَ مرَّاتٍ، وأَنَّهُ لَمْ يسبق إليه، وقد احتجُّوا بآياتٍ أخرى، ولكن هذه الآيَة أشهرها وأقواها دلالة.
ووجه الدِّلالَةِ فيها كما يؤخذ من شرح العضد على المختصر: أن الله ﷾ جمع بين مُشَاقَّةِ الرسول، واتِّباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد؛ فيلزم أن يكون اتّباع غير سبيل المؤمنين حرامًا إذْ لا يضم مباح إلى حرام في الوعيد كالزِّنا وأكل الخبز مثلًا، وإذا حرم اتباع غير سبيلهم وجب اتِّباع سبيلهم، إذْ لا مخرج عنهما وَالإِجْمَاعُ سَبِيلُهُم فيجب اتباعه.
قَالَ السَّعْدُ: قوله: "إذ لا مَخْرَجَ عنهما" إشارة إلى أن حُرْمَةَ اتِّبَاعِ غير سبيلهم، وإنْ كانت أعمَّ من وجوب اتباع سبيلهم بحسب المفهوم - لكن لا مخرج بحسب الوجود من اتِّبَاع غير سبيلهم واتباع سبيلهم؛ لأن ترك اتِّباع سبيلهم اتباع لسبيل غيرهم إذْ معنى السبيل ههنا ما يختاره الإنْسانُ لنفسه من قول أو فِعْلٍ، وقد اعتُرِضَ على هذا الدَّليل بوجوهٍ كثيرةٍ، وانفصلوا عنها، أصْعبها ما نذكره، وهو أن هذه الآية ظاهرة لعدم قطعيَّة لفظ "سبيل المؤمنين" في خصوص المُدَّعَى، وهو ما أجمع عليه واحتماله وجوهًا من التَّخْصِيص، لجواز أن يراد سبيلهم في متابعةِ الرسول أو في مناصرته، أوْ في الاقتداء به، أوْ فيما به صاروا مؤمنين، وهو الإيمان، وإذا قام الاحتمال كان غايتها الظُّهُور، والتَّمَسُّك بالظَّاهر إنَّما يثبت بالإجماع، ولولاه لوجب العملُ بالدلائل المانعةِ من اتِّباع الظنِّ نحو قوله تعالى: