تنبئ عن أنه فعْل المجتهد؛ وذلك لأنَّ مَنْ تتبَّع استعمالاتِ الصحابةِ والتابِعِينَ - رضوان الله عَليْهِم - قطَع بلا شَكٍّ بأنهم لا يطلقون القياسَ إلا على "فعْل المجتهد".
من ذلك قول سيِّدنا عُمَرَ بْنِ الخطَّاب لأبي موسى الأشْعريِّ "اعْرِفِ الأَشْبَاهَ وَالنَّظَائِرَ، وَقِس الأُمُورَ بِرَأْيِكَ" والذي يفهم من هذا القول: إن القياس "فعْل المجتهد" واستدلُّوا أيْضًا بأن "فعْل المجتهد" هو الذي يترتَّب عليه اشتغالُ ذمَّةِ المكلَّفِ بالفعْل أو التَّرْك، وجاء منه قولُه تعالَى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [سورة الحشر: الآية ٢] والاعتبارُ المقصودُ في الآية هو الإلحاقُ الحاصلُ بعد النظر في الأدلَّة؛ وذلك لأن الاعتبار في الآية أَمْرٌ، ولا أمْرَ إلَّا بِفعْلٍ.
حُجَجُ الرَّأْي الآخَرِ:
استدلَّ القائلون بهذا الرأي أن القياس دليلٌ من الأدِلَّة الشرعيَّة من الكتاب والسُّنة، وضَعَه الشارعُ الحكيم؛ ليدرك منه المجتهدُ حكْمَ الله عن طريق النَّظَر فيه؛ فعلَى هذا، يكون "القياسُ" دليلًا ثابتًا في ذاته، سواء نَظَر فيه المجتهدُ أمْ لا، وتكون دلالَتُه علَى الحُكْمِ ثابتةً - وإن لم يَنْظُر فيه المجتهد، فإن قالَ قائلٌ: لا مانع مِنْ أن يعتبر الشارعُ "فعْلَ المجتهدِ" الذي شأنه أن يصدر عنه دليلًا؛ كما اعْتَبَرَ "الإجْماعَ" الذي هو "فعل المجتهدين" دليلًا. والجوابُ عنه: أن الفعْل في ذاته لَيْسَ دليلًا ولو سلَّمنا أنه هو الدَّليل، فأين الأمارةُ التي اسْتَنَدَ إلَيْها المجتهدُ حتى قاس.
فقولكم كالإجماع: قياسٌ مع الفارق؛ لأن المجتهدينَ في إجماعِهِمْ على أمْرٍ لا بُدَّ من استنادهم إلى دَلِيلٍ، وإن كان غيْرَ مصرَّحٍ به، وعلَى هذا، فأيْنَ الدليل الذي استند إلَيْه المجتهدُ حتى ألْحقَه؟ كما أن القياس دليلٌ من الأدلة، وهي أمورٌ من شأنها أن العِلْم بها يؤدِّي إلى العلم بشيْءٍ آخر، وليس فعل المجتهد كذلك.
وأَمَّا الإجماعُ فمستَنَدُه الدليل، لكنْ لما لم يُصرَّحْ به جُعِل هو الدَّليلَ.
وبعد عَرضْ الرأْيَيْن السابِقَيْن وأدلَّة كل فريق في ما ذهب إليه، نَخْلُص إلى أن الرأْي المقبولَ هُوَ الثاني؛ لما تقدَّم من الحُجَج التي سقْنَاها، ولأن النظر في الأدلة التي نصبها الشارعُ مطلوبٌ لمعرفة الأحكام، والذي يتعلَّق به النظَرُ إنما هو الأمْرُ المشتَرَك، أي: المساواة، ولأن القائلين بأنَّ القياس فعْلُ المجتهد نراهم يعلِّلون فعْلَه بالأمر المشترك بيْن الأصْل والفَرْع.