وخُلَاصَتُهُ: أَنَّ المُجْتَهِدَ إِذَا غَلَبَ على ظَنِّهِ كَوْنُ الحكم في الأصل مُعَلَّلًا بالعلة الفلانية، ثم وجدَ تِلْكَ العِلَّةَ بغينها في الفرع يحصل له بالضَّرُورَةِ ظَنُّ ثبوتِ ذلِكَ الحكم في الفَرْعِ وحُصُولُ الظَنِّ بالشيءِ مُسْتَلْزِمٌ لحُصُولِ الْوَهْمِ بِنَقِيضِهِ، وحِينَئذٍ فَلَا يمكنُهُ أَنْ يَعْمَلَ بالظَنِّ والوَهْمِ لاِسْتِلْزَامِهِ اجتماع النقِيضَيْن، ولا أن يَتْرُكَ العملَ بِهِمَا لاسْتِلْزَامِهِ ارتفاعِ النقيضَيْنِ، ولا أن يَعْمَلَ بالوهْمِ دونَ الظنِّ، لأنَّ العملَ بالمرجوحِ مع وُجُودِ الراجِحِ ممتنعٌ عَقْلًا وشَرْعًا، فتعيَّنَ العملُ بالظَنِّ، ولا معنى لوجُوبِ العَمَلِ بالظَنِّ إلا إثْبَاتُ القياسِ على سبيلِ المِثَالِ: إذا غلبَ على ظنِّ المُجْتَهِدِ أَنَّ حُكْمَ الخَمْرِ معلَّلٌ بالإسْكَارِ، ثم وجد تلك العِلَّة بِعَينِهَا فِي النَّبِيذِ، فإنَّهُ يحصل له بالضرورة ظن ثبوت ذلك الحكم في النبيذ، وحُصُولُ الظَنِّ بثبوت الحكْم في النبيذِ مُسْتَلْزِمٌ لِحُصُولِ الوَهْم بِنقيضِهِ، وحنيئِذٍ لا يُمْكِنُهُ أنْ يعملَ بِهِمَا، ولا أن يتْركَ العملَ بهما، ولا أن يعمل بالمرجوح دون الراجح لما تَقَدَّم، فتعيَّنَ العمل بالظنِّ وهو القياس، فَثَبَتَ أن القِيَاسَ حُجَّةٌ من الحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ لاستفادَةِ الأَحْكَامِ.
شبه وردٌّ:
اسْتَدَلَّ المَانِعُونَ للقياس بأدلَّةٍ نَقْلِيَّةِ وعقليَّةٍ وتمَسَّكُوِا بِظَاهِرِهَا، فنحن نعرِضُهَا مع الرَدِّ على كل دليل من أدِلَّتِهِمْ، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [سورة الأنعام: الآية ٣٨]، وقوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [سورة النحل: الآية ٨٩] أي بيانًا لكل ما شرع لكم مما يَنْفَعُكُم في أمرِ دِينِكُم ودنياكم فكلُّ شيءٍ مشروع في الكتاب، وما ليس مشروعًا فيه، فيبقى على النفي الأَصْلِيِّ، وحينئذٍ يكون إثباتُ القِيَاسِ بما ليس في كِتَابِ اللهِ، فيكونُ مُنَافيًا للشرع، فلا يصحُّ العملُ بِهِ.
والجواب على ذلك أن المُرَادَ بِالكِتَابِ اللَّوْح المحْفُوظ، وهو مُشْتَمِلٌ على كل شَيْءٍ، والقياسُ شيء من تلك الأشْيَاءِ التي ذكرت فيه.
أَوْ يُرَادُ من الكِتَابِ اللَّفظ المنزل على محمد ﷺ المُتَعَبَّدِ بِتِلَاوَتِهِ، وَأَن مَا ثَبَتَ بالقياسِ مضاف إلى الكتاب لأن القِيَاسَ مُنَزَّلٌ في كتاب الله نصًا، أو دِلالَةً ذلك أنه نظير الاعتبار المأمور به في قوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا﴾، فالعمل بالقياس عمل بالكتاب في الحقيقَةِ، أو لأن الكتاب دَلَّ على وُجُوب قَبُولِ قَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ لقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا