والجواب أنَّا لا نسلم أن مقتضاهما ما ذُكِرَ إذ كل منهما ناهض في إجْمَاعِ المسلمين من غير تقييد ولا شرط، وتخطئة المخالف، وتقديمه على القاطع مطلقًا لم يتعرَّض فيهما لاشتراط عدد التَّواتر.
عثر الخصومُ على عبارةٍ للإمام أحمدَ بْنِ حنبلٍ ﵁ تؤيِّد في ظاهرها دعواهم فتشبَّثوا بها، وظنُّوا أنَّهم حصلوا على شيء وما حصلوا على شيء، وهذه العبارة هي قوله:"مَنِ ادَّعى الإجماعَ فهو كَاذِبٌ"، ولإبْطَالِ تمسُّكهم بها نقول: إنَّ الإمام أحمد أطلقَ القَوْلَ بصحَّةِ الإجْمَاعِ في مواضعَ كثيرةٍ، منها ما رَوَى البَيْهَقِيُّ عنه أنه قال: أجمع النَّاس على أن هذه الآية في الصَّلَاة يعني: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾ [سورة الأعراف: الآية ٢٠٤] فَلَوْ لَمْ يَرَ ثبوت الإجْماع، وثبوت العِلم به ما أطْلَقَ القول بِصِحَّتِهِ فمن المُحَتَّمِ أن تُؤَوَّل عبارته تأويلًا يَتَّفِقُ وقوله هذا، وقد ذكروا له عدَّة تأويلات:
منها: ما قاله شارحُ المُخْتَصَر، وتبعه صاحب "التَّحْرِيرِ" و"المُسَلَّمِ". أنَّهُ محمول على استبعاد انفراد ناقله به، فَمَعْنَاهُ من ادَّعى الإجماع حيث لم يطَّلِعْ عليه سواه، فهو كاذب، إذْ لو كان صادقًا لاطَّلَعَ عليه غيره.
ومنها: ما نقله صاحب التقرير عن أصحاب الإمام أحمد أنَّهُ قاله على جهة الوَرَعِ لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه فمعناه من ادَّعى الإجْماع جازمَا به، مع احتمال وُجُودِ خلاف لم يبلغه فهو كاذب، ويَشْهَدُ لهذا لفظه في رواية ابنه عبد الله وهو "من ادَّعى الإجماع فقد كذب، لعَلَّ النَّاسَ قد اختلفوا"، ولكن نَقُولُ: لا نعلم النَّاس اختلفوا إذا لم يبلغه.
ومنها: ما نقله في التَّقْرِيرِ أيضًا عن ابن رجب أنه قاله إنْكارًا على فقهاء المُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يدَّعُون إجْمَاعَ النَّاسِ على ما يقولون، وكانوا من أقلِّ النَّاسِ معرفةً بأقوال الصَّحابَةِ والتَّابِعِين، وأحمد لا يكاد يوجد في كلامه احْتِجاجٌ بإجْمَاع بعد التَّابِعِين، أو بعد القرون الثَّلاثَةِ فمعناه من ادَّعى الإجماع من هؤلاء المعتزلة على رَأْيِهِ الَّذي انفرد به، فهو كاذب.
ومنها: أنَّه محمول على حدوثه الآن، فمعناه: من ادَّعى حدوث الإجْماعِ الآن، فهو