للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معارض بأنَّه لو كان عن نصٍّ قاطع لتواتر لتوفُّرِ الدَّواعي على نقله، والتالي باطل، إذ لو تواتر لنقل، ولم وينقل.

والجواب عنه أنَّا نمنع الملازمةَ؛ لأن تواتر الملزوم، وهو الإجْمَاعُ على القطع بالتخطئة أغنى عن تواتر اللازم، وهو النَّصُّ القاطع الدالُّ على ذلك.

الوجه الثَّالث: قولكم: "العادة قاضيةٌ بأن مثل هذا الاتِّفاق لا يكون إلا عن نصٍّ قاطع" منقوض أيْضًا بإجْمَاع الفَلَاسِفَةِ على قِدَمِ العالم، واليهود على أن لا نبيَّ بعد مُوسى، والنَّصَارى على أن عِيسى قد قتل، فإنَّ الدَّلِيلَ يجري في هذه الصُّور مع تخلُّفِ حكمه عنها؛ لأنَّ العادة لا تحكم باستنادها إلى قاطِعٍ، والجواب أنَّا لا نسلِّمُ جريانهُ فيها، فإنَّا قد ذكرنا في الدليل أن العادة تحيل اجتماع هذا المبلغ من الأخيار الصالحين المعلوم فضلهم بمشاهدة أحوالهم الشَّريفة، وسماع الأخبار المشرفة عنهم، وهذا غير موجود في إجماع من ذكر، وأيضًا إجماع الفَلَاسِفَة ناشئ عن نظر عَقْلِيّ يزاحمهُ الوهم، واشتباه الصَّحيح بالفَاسِدِ فيه كثير، ومثله لا تَقْضِي العَادةُ باستِنَادِهِ إلى القاطع بخلاف الإجماع في الشَّرعيَّات، فإنَّ الفرق بين قطعِيِّها وظنيِّها بَيِّن لا يشتبه على أهل المعرفة، والتمييز فضلًا عن المحققين المجتهدين، وأمَّا إجماع اليهود والنَّصارى فليس عن تحقيق، بل هو ناشئ عن اتِّباعِهِم لآحاد الأوائل ﴿لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [سورة البقرة: الآية ٧٩] فلا توجب العادة استناده إلى القاطع، وأمَّا الصَّحابَةُ والتَّابِعُونَ، فَإنَّهُم مُحَقِّقُونَ غير تابعين لأحدٍ.

الدَّلِيلُ الثَّانِي: من أدِلَّةِ المعقول أنَّهُم أجمعوا على أن الإجْمَاع يقدَّمُ على القاطع من الكتاب والسُّنَّةِ؛ وذلك بناءً على أن النُّصوصَ الْقَطْعِيَّة تحتمل النَّسْخَ في الجملة بخلاف الإجماع فإنَّهُ لا يحتمله ألْبَتَّةَ.

وأجمعوا أيضًا على أن غير القاطع لا يقدَّمُ على القاطع، بل القاطع هو المُقَدَّم، فلو لم يكن الإجماع حجَّةً قطعيَّة لما أجمعوا على تقديمه على القاطع، لكن التالي باطلٌ، فبطل المُقَدَّم، وثبت نقيضه، وهو أنَّهُ حجة قَطْعِيَّةٌ، وهو المطلوب، وقد اعترض عليه، وعلى الدليل السابق بأنَّ مقتضاها أن الإجْمَاعَ، إنَّما يكون حجَّة قطعيَّة إذا بلغ المجمعون عدد التَّواتر فإن ما لم يبلغ فيه المجمعون عدد التَّواتر لا يقطع بتخطئة مخالفه، ولا يقدَّم على القاطع إجماعًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>