للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان الوالد يحب لو كان أمري على العكس، أعني يحب أن ألازم المزي أكثر من ملازمة الذهبي، لعظمة المزي عنده، وكنت إِذا جئت غالبًا من عند شيخ، يقول: هات ما استفدت، ما قرأت، ما سمعت، فأحكي له مجلسي معه، فكنت إِذا جئت من عند الذهبي، يقول: جئت من عند شيخك، وإِذا جئت من عند الشيخ نجم الدين القحفازي، يقول: جئت من جامع تِنكز؛ لأن الشيخ نجم الدين كان يشغلنا فيه، وإِذا جئت من عند الشيخ شمس الدين بن النقيب، يقول: جئت من الشامية؛ لأني كنت أقرأ عليه فيها، وإِذا جئت من عند الشيخ أبي العباس الأندرشي يقول: جئت من الجامع، لأني كنت أقرأ عليه فيه، وهكذا، وأما إِذا جئت من عند المزي، فيقول: جئت من عند الشيخ، ويفصح بلفظ الشيخ، ويرفع بها صوته، وأنا جازم بأنه إِنما كان يفعل ذلك ليثبت في قلبي عظمته، ويحثني على ملازمته .... (١).

ويستمر التاج السبكي في طلب العلم والتنقل بين أساطينه، حتى مهر وبرع، وعلا صيته، وقد أجازه شمس الدين بن النقيب بالإِفتاء والتدريس، ولما مات ابن النقيب كان عمره ثمان عشرة سنة، وأفتى ودرس، وصنف، وأشغل (٢).

[شيوخه]

ممَّا علم بالضرورة من أصول التربية - أن التلميذ يستمد ثقافته من شيوخه، فالشيوخ بالنسبة إِليه - هم القدوة العملية، والصورة الحية لما يتعلمه، بهم يكون تأثره، وعلى أيديهم تتكون شخصيته، وتصنع معارفه، ومنهم يأخذ أخلاقه، وعليهم تتربى ملكاته، يقول ابن خلدون: "إِن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم، وما ينتحلون به من المذاهب والأخلاق تارة علمًا وتعليمًا وإِلقاءً، وتارة محاكاة وتلقينًا بالمباشرة، إِلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكامًا، وأقوى رسوخًا، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها" (٣).

وقد تتلمذ شيخنا تاج الدين السبكي على مشايخ عصره، وجهابذة العلم في زمانه،


(١) طبقات الشَّافعية الكبرى ١٠/ ٣٩٨ - ٣٩٩.
(٢) شذرات الذهب ٦/ ٢٢١.
(٣) ابن خلدون: المقدمة ص ٦٣٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>