وقال الزَّعفرانيُّ:"كان قوْمٌ من أهْلِ العربيَّة يختَلِفُون إلى مَجْلِس الشَّافعيِّ معنا، ويجْلِسُون ناحية، فقلْتُ لرجل من رؤَسَائِهم: إنَّكُمْ لا تتعاطَوْن العِلْم، فلِمَ تخْتَلِفُون مَعَنا؟ قالوا: نَسْمَع لُغَةَ الشَّافعيِّ".
وقال الأَصْمَعِي:"صحَّحْت أشْعَار"هُذَيْل" على فَتًى من "قُرَيْشٍ"، يقال له: محمَّدُ بنُ إدْرِيِسَ الشَّافِعِيُّ".
وقال ثَعْلَبٌ:"العجَبُ أن بَعْض النَّاسِ يَأْخُذُون اللُّغَة عن الشافعيِّ، وهو مِن بَيْت اللُّغَة! والشافعيُّ يجِبُ أنْ يُؤْخَذَ منه اللُّغة، لا أنْ يُؤْخَذَ عَلَيْه اللُّغَةُ" يعني: يجب أن يحتجوا بألفاظه نَفْسِها، لا بما نَقَلَه فَقَطْ، وكفَى بشهادة الجاحظ في "أدَبِه وبَيَانِهِ" حيث يقول: "نَظَرْتُ في كُتُبِ هؤلاءِ النَّبَغَةِ الَّذِين نَبَغُوا فِي العِلْم، فَلَمْ أرَ أحْسَنَ تأْليفًا من المُطَّلبِيِّ، كأنَّ لِسَانه يَنْظِمُ الدُّرَّ" فكُتُبه كلها مُثُلٌ رائعةٌ من الأَدَب العربيِّ النَّقيِّ، في الذروة العُلْيا من البَلاغة، يَكْتُب على سَجيتِهِ، ويُمْلي بِفِطْرَتِه، لا يتكلَّف ولا يَتَصَنَّع، أَفْصَحُ نثرٍ تَقْرَؤُه بَعْد القُرْآن والحَدِيث، لا يُسَامِيه قائلٌ، ولا يُدَانيه كاتبٌ. ونَحْنُ نَرَى أن هذا الكتاب "كتابَ الرِّسالة" ينبغي أن يَكُون من الكُتُب المَفْرُوءة في كُلِّيَّات الأَزْهَر، وكلِّيَّات الجَامِعَة، وأنْ تُخْتَار مِنْه فِقْراتٌ لطُلَّابِ الدراسةِ الثَّانويةِ في المعاهدِ والمَدَارِس، لِيُفِيدُوا من ذلك عِلْمًا بِصِحَّة النَّظَر وقوَّة الحُجَّة، وبَيَانًا لا يرَوْنَ مِثْلَه في كُتُب العُلَماء، وآثَارِ الأُدَبَاء، وقد بَيَّن العلَّامة ابن خَلْدُونَ في "مقدمته" أهميَّة "الرسالة" فقال: أوَّلُ مَنْ كَتَب فِيه: الشافعيُّ ﵁ أَمْلَى فيه رسالَتَه المَشْهُورة، تكلَّم فيها عن الأَوَامِرِ والنَّواهِي، والبيَان، والخَبَر، والنَّسْخ وحُكْم العِلَّة المَنْصُوصَة من القياسِ، ثمَّ كَتَب فقهاءُ الحنفيَّة فيه، وحقَّقوا تلك القواعِدَ، وأوْسَعُوا القَوْلَ فيها، وكتَب المتكلِّمون أيْضًا، إلَّا أن كتابَة الفقهاء فيها أمَسُّ بالفقْهِ، وألْيْقُ بِالفُرُوع.
خُلَاصَةُ رِسَالَةِ الشَّافعيِّ:
أجْمَلَ ابنُ خَلْدُونَ ما حَوَتْهُ رسالةُ الشَّافعيِّ من المَعْلُوماتِ، وسنلخِّصُ هنا هذه الرسَالَة؛ ليَرَى القارئُ أوَّلَ نهْجٍ نهَجَه الأصوليُّون في تأليفهم: بدأ الشَّافعيُّ - في رِسَالَتِهِ ﵁ فعرَّف البيانَ بأنَّه اسم جامعٌ لمعانٍ مجتمعةِ الأُصُولِ، متَشَعِّبة الفُرُوع، وهي بيانٌ لِمَنْ خُوطِبَ بِهَا مِمَّنْ نزل القرآنُ بِلِسَانِه، وهي مُتَقَارِبةُ الاسْتِوَاءِ عِنْده، وإن كان بَعْضُها أشدَّ تأكيدًا، وهي مختلفةٌ عِنْد من يَجْهَل لسانَ العَرَب، ومِنْ ذلك ما أَبَانَهُ الله لخلْقِه نَصًّا،