وأمَّا الثانية؛ فلقوله ﷿: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [سورة النساء: الآية ٨٢] وذلك في مَعْرض المَدْحِ بَعْد الاختلافِ المُوجِب للردِّ، دلَّ هذا على أن ما هو مِنْ عِنْد الله لا يُوجَدُ فيه اختلافٌ، فما يوجد فيه اختلافٌ لا يكونُ مِنْ عِنْد الله، فحُكْم القياس للاختلافِ الكثيرِ الحَاصِل فيه لا يكونُ مِنْ عِنْد الله، وكلُّ حُكْمٍ لا يكونُ من عِنْد الله، فهو مردودٌ إجْماعًا.
والجوابُ: أن الاختلافَ المنفيَّ في الآية هُوَ التناقُضُ أو الاضطرابُ المُخِلُّ، والإعجازُ الذي لأجْله وقَع التحدِّي والإلزام بكَوْنه من عِنْد الله لا الاختلافُ في الأحْكَام الشرعيَّة، فإنَّه ثابت وواقعٌ لا يمكن إنْكَاره على أنَّ القياسَ كاشِفٌ ومُظْهِرٌ عمَّا هو من عِنْد الله لكنْ ظَنًّا.
وخامِسًا: القياسُ يُفْضِي إلى التناقُضِ الباطِلِ، فيكون باطلًا، وتوضيح ذلك أنَّه يجوز أنْ تَتَعارَض علَّتان تقْتَضِي كلٌّ منهما نقيضَ حُكْم الأُخْرى، وحينئذٍ يجبُ اعتبارهما، وإثباتُ حكمهما؛ لأنَّه المَفْرُوض، فيَلْزَم التناقض.
والجوابُ: أن هذا الفَرْض إمَّا في قائِسٍ واحدٍ أو في متعدِّدٍ، فإن كان القائِسُ واحدًا، رجَّح بطريقٍ من طُرُقِ الترجيح، فإن لم يَقْدِرْ على التَّرْجِيح، فإما أن يتوقَّفَ فلا يَعْمَل بهما، كأنه لا دليلَ؛ لتعذُّر ثبوتِ الحُكْم الذي شَرْطُه عدَمُ وجود المُعَارِض المقاوم، وبهذا صرَّح كثيرٌ منَ العُلَمَاء.
وإمَّا أنْ يخيَّر، فيعمل بأيِّهما شاء، وإلَيْه ذهب الشافعيُّ وأحمدُ ﵄ أمَّا إذا تعدَّد القائِسُون، فلا تناقض؛ إذْ يَعْمَل كلٌّ بقياسه.
وُقُوعُ القِيَاسِ وعَدَمُهُ:
قد تقدَّم فيما سَبَق الخلافُ في جواز التعبُّد بالقياسِ وعَدَمِه، وأوضَحْنا حجَّة كلِّ فريقٍ، وذَهَبْنا إلى أنَّ القَوْل الصحيح هو القولُ بالجَوَاز.