للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو ورود التعبُّد من الشارع بامتناع العَمَل به، فكان ذلك من الشَّارع لا لعَدَمِ الجَوَازِ العقْليِّ.

وثالثًا، وهو يُنْسَب إلى النَّظَام: حيث قال: قد ثبَتَ مِنْ قِبلِ الشارِعِ الفرْقُ بين المتماثِلات والجَمْعُ بين المخْتَلِفَات، وإذا ثبَتَ ذلِكَ اسْتَحالَ التعبُّد بالقياس.

أما الفرْقُ بين المتماثلات، فمِنْه أن الشارع قدْ فرضَ الغُسْل من المَنِيِّ، كما أبطل الصوْمَ بإنزاله عَمْدًا، وحَرَّم مَسَّ المُصْحَف والمُكْث في المسْجِد والطوافَ دُون البَوْل مع كونهما نجسَيْن خارجَيْن منْ سبيلٍ واحدٍ، أيضًا قطع السارق القَلِيلَ دون غاصِبِ الكثيرِ مع أن جناية الأوَّل أصْغَرُ من جناية الثاني، وحرَّم النظر إلى العَجُوز الشَّوْهاء، وأباحَهُ في حقِّ الأَمَة الحَسْناء. وأما الجَمْع بين المختلفات، فمِنْه التَّسْوِية بَيْن قَتْل الصَّيْد عمدًا وقتله خطأً في الفداء في الإحْرَام مع كوْن العَمْد جنايةً كاملةً دون الخَطَأ، ومِنْه التَّسْويَةُ بَيْن الزنا والرِّدَّة في القَتْل مع كوْنِ الثاني أكْبَرَ كبيرةً من الأوَّل، ومِنْه التَّسْوية بَيْن القاتل خطأً والواطِئ في الصَّوْم، والمظاهِرِ عن امرأتِهِ في إيجاب الكفَّارة عليهم، وإذا ثَبَت كلُّ ذلك، اسْتَحال التعبُّد بالقياس؛ لأن القياس يقْضِي بثبوتِ الجَمْع بَيْن المتماثلاتِ والفَرْقِ بَيْن المُخْتَلِفَات.

والجوابُ عن ذلِكَ: أن المتماثلاتِ لَيْسَت متماثلةً مِنْ كل وجهٍ؛ لجوازِ اختلافِهَا في المَنَاط، وإنَّما يجب اشتراكُها في الحُكْم إذا كان ما به الاشْتراكُ يَصْلُح علَّةً للحُكْم، ليصلُح جامعًا، ولا يكونُ له معارضٌ في الأصلِ، هو المقتضى للحُكْم دون هذا، وليس هناك معارضٌ في الفَرْعِ أقوى يقتضي خلافَ ذلك الحُكْمِ، ولا شيء من ذلك موجودٌ فيما ذكر من الصُّوَر المتقدِّمة؛ لجواز عدم صلاحية ما توهَّمه المعترضُ جامعًا، أو وجود المعارِضِ في الأصْل أو في الفَرْع.

وأما قضيَّة الجَمْع بين المختلفاتِ، فلجواز اشتراكِها في مَعْنىً جامعٍ يصلح أن يكونَ علَّةً للحكم؛ فإن المختلفات لا يمتنع اشتراكُها في صفاتٍ ثبوتيَّةٍ وأحكامٍ، وأيْضًا يجوز اختصاصُ كلٍّ بعلةٍ تقتضي حُكْمَ المخالف الآخَرِ، فإنَّ العِلَلَ المختلِفَة لا يمتنع أن تُوجِبَ في المحال المختلفة حُكْمًا واحدًا.

ورابعًا: القياسُ يُفْضِي إلى الاختلاف، وكلُّ ما يفضي إلى الاختلافِ مردودٌ، أما المقدِّمة الأُولى، فلاختلاف الأنظار والقرائِحِ، كما هو الواقعُ المشاهَدُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>