والجوابُ: أنَّا لا نسلِّم أن مَنْع العقلِ مِمَّا لا يُؤْمَن فيه من الخطأ إحالةٌ له وإيجابٌ لنفْيِه، بل مَعْناه أنَّه مرجِّح للترك على العَمَل به، والمُدَعَى هو الإحالة، فهو نصْبُ دليلٍ لا في محلِّ النزاع، ثم إنَّ مثْلَه لا يَمْتنعُ التعبُّد به شَرْعًا.
ولو سلِّم أن مَنْعَ ما لا يُؤْمَن فيه الخطأُ إحالةٌ له في الجُمْلَة، فلا نسلِّم أن مَنْعه ثابتٌ في جميع الصُّوَر، وإنَّما هو مختصٌّ بما لا يَغْلب فيه جانبُ الصواب، وأمَّا إذا ظُنَّ الصواب، وكان الخطأُ مرجوحًا؛ فلا يمتنع العمل به، لأن المظانَّ الأكثرية لا تُتْرَك بالاحتمالات الأقليَّة، ولو تُرِكَتِ المظانُّ الأكثريةُ بالاحتمالاتِ الأقليَّةِ، لتعطَّلَتِ الأسباب الدنيويةُ والأخرويَّة؛ إذ ما مِنْ سبب من الأسباب إلَّا ويَجْري فيه ذلك، ويجوز تخلُّف أثره والتضرُّر به، فالتَّاجر لا يُسَافر، وهو جازمٌ أنَّه يرْبَح، والمتعلِّم لا يَتْعَبُ في تعلُّمه، وهو يقْطَع بأنَّه يَعْلم ويثمر علمه، إلى غير ذلك من الأمثلة، بل العَقْلُ يوجِبُ العَمَل عِنْد ظنِّ الصواب، أما إذا أمْكَنَ الخَطَأ؛ تَحْصِيلًا لِمصالح لا تحْصُل إلا به، على ما لا يخفى في تتبُّع موارد الشَّرْع، ومَنْ طلب الجَزْم في التكاليف، عطَّلَ أكثرها.
ثانيًا: لا يُجَوِّزُ العَقْلُ وُرودَ الشَّرْع بالعَمَل بالظَّنِّ، لما قَدْ عُلِم مِنْه أن الشَّرْع ورَدَ بمخالفة الظنِّ، وكَيْف يتأتَّى الجمعْ بَيْن إيجاب الموافقة وإيجابِ المُخَالَفة.
ويتضح ذلك أوَّلًا: بالحُكْم بالشَّاهدِ الواحدِ، وإنْ أفاد الظنَّ القويَّ، لكونه صديقًا أو للقرائن.
وثانيًا: شهادةُ العَبِيدِ، وإن كَثروا، وعُلِمَ أنَّهم دَيِّنُون عُدُولٌ في الغاية منَ التَّقْوى، حتى يقوى الظنُّ بشهادتهم.
وثالثًا: رضيعة في عَشْر أجنبيات، فإنَّ كلَّ واحدةٍ على التعْيين يُظَنُّ كونُها غَيْرَ الرضيعة لتحقُّقه على تسْعِ تقاديرَ، ولا يُتحقَّق خلافُه إلَّا على تقْديرٍ واحدٍ، ومعَ ذلِك فأُمِرْنا بمخالفة الظنِّ، فَحُرمَ التزوُّجُ بها.
والجوابُ: أنَّا لا نسلِّم أنَّه عُلِمَ ورودُ الشَّرْع بمخالفة الظنِّ، بل المعلومُ خلافُه، وهو ورودُهُ بمتابعة الظنّ، كما في خَبَر الواحِدِ، وفي ظاهر الكتاب والسُّنَّة، وأخبار النِّسَاء في الحَيْض والطُّهْر في غِشْيانهنَّ، وما ذكرتموه، إنَّما مُنِعَ فيه عن اتباع الظنِّ لمانعٍ خاصٍّ،